من المعروف ان اي اصلاح اقتصادي حقيقي يستلزم اجراءات حازمه غالبا ماتكون مؤلمة .. لكن النتائج .. اذا كانت الخطط جيدة والتنفيذ سليما .. تبرر تحمل تبعات هذه الاجراءات .. لذا فما نقابله اليوم من اجراءات ليس امرا مستغربا او مستنكرا وان كنا نأمل ان تكون نتائجة ايجابية على المديين المتوسط والطويل.
لكن النظرة الشمولية لعملية الاصلاح الاقتصادي الجارية في السعودية اليوم ليست محل اهتمامي في هذا المقال .. ما اريد التركيز عليه هو فئة محدده ستتضرر كثيرا من نتائج ما يحدث اليوم واخشى انها بعد تحملها لفاتورة الاصلاح لن تستفيد من نتائجة الايجابية بطريقة مناسبة حتى لو نجح تماما .. لذلك يجب الانتباه لها جيدا والعمل على تعويضها في الوقت المناسب.
لاوضح فكرتي اكثر سأستشهد بفئة سابقة اسميها “جيل النكبة” وما اخشاه ان يصبحوا جيل النكبه الاولى مقارنة بجيل النكبة الثانية الذي يجري تكوينه حاليا ان تكرر نفس السيناريو مرة اخرى.
جيل النكبة الاولى هم مواليد أواخر السبعينات واوائل الثمانينات من القرن الماضي .. هذا الجيل ولد في اواخر ما يسمى بفترة الطفرة .. ولنكون ادق الطفرة الاولى .. كانت مداخيل المجتمع السعودي في ذلك الوقت في اوجها .. لكنهم لم يستمتعوا بذلك طويلا .. فقد نشأوا خلال النصف الثاني من الثمانينات والتسعينات التي شهدت انخفاض اسعار النفط بدرجة كبيرة جدا.
درسوا المراحل المتوسطة والثانوية في عز فترات تقشف الدولة عندما كانت العملية التعليمية في اضعف حالاتها والفصول الدراسية مكدسة بعشرات الطلبه وغالبية اسر الطبقة المتوسطة تعاني ماديا ولا تستطيع توفير مستوى الرفاهيه الذي توفر لاشقائهم الاكبر حتى في الاساسيات.
وصلوا الجامعه في وقت كانت جامعاتنا في اسوأ مراحلها .. الحصول على القبول صعب جدا مهما كان التخصص المطلوب ومن حصل على القبول الجامعي عاصر اسوأ فترات التخلف في التعليم العالي .. اما الابتعاث فقد كان شئ من القصص الخيالية التي يسمعون كبار السن يتحدثون عنها احيانا .. ومن تخرج منهم من الجامعه وجد الابواب شبه مغلقه امامه فلا فرص من اي نوع تقريبا لمن لم يكن محملا بأسلحة الواسطة والنفوذ.
قلة قليله منهم تمكنوا بسبب الحظ او التفوق بشكل خاص او الواسطة القوية من الحصول على فرص جيدة سمحت لهم بالانطلاق مبكرا لتسلق السلم الوظيفي القطاع الخاص اما القطاع الحكومي فقد كان شبه مغلق وحتى من اخترقه لم يحقق الكثير لان سلم الرواتب الحكومية كان ببساطة تعيسا مقارنة بتسارع ارتفاع كلفة المعيشة.
جاء بعد ذلك القرن الواحد والعشرين وبدأت الامور في التغير تدريجيا مع ارتفاع اسعار النفط وتمكن الدولة من سداد الدين المتراكم نتيجة سنوات انخفاض اسعار البترول وحرب الخليج .. هنا بدأت مرحلة الطفرة الثانية والتي كانت اول معالمها فتح باب الابتعاث من جديد.
لكن للاسف هذا الجيل الذي دفع غالبية فاتورة انخفاض اسعار البترول وحرب الخليج لم يتمكن من الحصول على غالبية التسهيلات التي توفرت بسبب الطفرة الثانية .. القطاع الخاص الذي انتعش بسبب مشاريع البنية التحتية وعقود الدولة الضخمة صعب الاختراق بدرجة كبيرة لانه محتل من قبل الاجانب من جهه ولانه يستلزم تأهيل عالي من جهه اخرى .. تأهيل حرم منه افراد ذلك الجيل لانهم كانوا على مقاعد الدراسة في اسوأ فترة ممكنه فلم يتمكنوا من الحصول على شهادات مميزة او تكوين خبرات ثمينة فالابواب ببساطة كانت مغلقة.
حتى برامج الدعم الحكومية التي ظهرت في اوج الطفرة الثانية استثنتهم واهملتهم تماما .. برنامج الابتعاث الذي ساهم ويساهم في تغيير وجه المملكة اطلق بشكل خجول عام ٢٠٠٣ ولم يصبح منفذا حقيقيا للتعليم الا بعد عام ٢٠٠٥ .. لكن اهم شروط هذا البرنامج ان لا يزيد عمر المتقدم لدراسة مرحلة البكالوريوس عن ٢٣ سنه والماجستير عن ٢٧ سنه .. اي انه ببساطة مالم تكن قد ولدت بعد سنة ١٩٨٢ فلا يمكنك دراسة البكالوريوس .. اما لو كنت قد درست البكالوريوس وولدت عام ١٩٨٠ فان لم تكن قد قبلت في البرنامج فعلا في عام ٢٠٠٧ او قبله فقد انتهت فرصتك بالابتعاث .. نافذة صغيرة جدا ندر من استطاع المرور منها.
نفس الامر ينطبق على جميع البرامج الاخرى من حافز لصندوق التنمية البشرية للابتعاث الداخلي وشروط القبول في الجامعات السعودية وغيرها .. كل هذه البرامج كانت تحوي شروط مستعصية على مواليد تلك الفتره سواء كان ذلك في استحالة العودة لمقاعد الدراسة لمن مر على تخرجة من الثانوية خمس سنوات او شروط السن او شروط عدم الحصول على وظيفة سابقا الخ.
جيل النكبة الاولى دفع فاتورة تقشف الثمانينات والتسعينات كاملة واقفلت امامه كل الابواب بسببها .. وعندما حل وقت الحصاد قيل له .. متأسفون اتيت متأخرا .. الفرص لمن هو اصغر منك فقط.
هذا الجيل يتراوح عمر افراده الآن بين اواخر الثلاثينات واوائل الاربعينات وغالبيتهم توافق مع ظروفه وكل آماله محصوره الآن اما في فتح فرص للتقدم الوظيفي امامه عن طريق اقصاء لوبي الاجانب الذي يحاربه في اروقة القطاع الخاص .. وهو امر يراه مستعصيا جدا فلا محاولات جاده من اي نوع لكسر هذا الاحتكار .. او مساعدته على تحقيق حلمه بتملك منزله الخاص عن طريق اتمام عملية الولادة المتعسرة لبرامج الاسكان التي اصبح يراها مجرد سراب .. اما تحقيق قفزات كبيرة او تغيير جذري في وضعه الاقتصادي او الاجتماعي فلم يعد من ضمن آماله.
ما اخشاه اليوم هو تكرار نفس التجربه مع جيل جديد يعاني من سنوات تقشف قادمة قد تطول يدفع ثمنها غاليا ويخرج لسوق عمل احتل اهم الفرص فيه خريجوا برنامج الابتعاث الحالي فلا يكون مؤهلا لمنافستهم ولا يوجد توسع حقيقي لايجاد منافذ جديده يشغلها ليضل يرزح تحت المعاناة خلال السنوات العجاف .. وعندما تنزاح الغمه سواء بارتفاع اسعار النفط لفتره كافية لازالة الاثار السابقة وبداية طفرة ثالثه او بنجاح حلم الاصلاح الاقتصادي يقال له كما قيل لجيل النكبه الاولى .. متأسفون .. انت كبير السن والاستثمار فيك غير مجدي .. دع الفرصه لمن هو اصغر منك واجدى للاستثمار.
ابنائنا ممن هم في المرحلة المتوسطة الآن او اوائل المرحلة الثانوية هم المرشح ليصبحوا جيل النكبة الثانية .. فالرجاء الرجاء الانتباه لهم .. وحتى لو حرموا من الفرص مؤقتا .. فيجب ان لا ينسوا مستقبلا فنحن لا نريد جيل نكبة آخر.
احمد الحنطي
هيوستن .. تكساس
٥ يناير ٢٠١٧