العلمانية احد اكثر المصطلحات جدلا في حراكنا الثقافي .. فقد كانت تهمة جاهزة تلقى في وجه الكثيرين بسبب وبدون سبب لعقود طويلة .. ولم يكن احد يجرؤ على تبينها حقيقه .. لكن السنوات الاخيرة شهدت تحولا حيث ظهر عدد من المدافعين عن العلمانية .. وقد تركزت جهودهم في محاولة اعادة تعريف العلمانية بشكل مختلف قليلا عما تعودنا عليه.
لكن المحرك الرئيسي والذي قلب الطاولة فعلا .. كان التبني الصريح والمتكرر لاحد اكبر الاحزاب ذات التوجه الاسلامي .. واعني هنا حزب العدالة والتنمية التركي .. للعلمانية واصراره على الدعوه لها حتى بين احزاب الاخوان المسلمين التي تتحالف معه بشكل رئيسي.
هذا اوجد خلطا شديدا .. فالبعض من اعداء العلمانية الطبيعيين ومن حملوها كتهمة جاهزة يرفعونها في وجه كل من يخالفهم مؤيدين شرسين لحزب العدالة والتنمية .. في المقابل البعض ممن يميلون لتأييد الفكرة العلمانية يكنون عداء لحزب العدالة والتنمية .. انقلبت الطاوله حرفيا .. البعض حافظ على مواقفه الفكرية مع محاولة ايجاد تبريرات وتفسيرات مختلفه لموقف حليفهم المفضل .. والبعض انقلب على نفسه .. حتى ان احدهم مؤخرا اخرج ورق الصنفرة.
والبعض الآخر انقلب عليها بحركة تتمثل في مهاجمة علمانية الحزب الذي يعادونه رغم مهادنتهم للعلمانية او حتى تأييدها لفترات طويلة.
المسألة في اعتقادي تتلخص في سؤالين مهمين .. الاول حول الدوافع وراء كل موقف .. فهم الدوافع بوضوح ودقه يجعل الصوره اكثر وضوحا ويوفر علينا اشواط طويلة من المناقشات والاخذ والرد بالاقوال والافكار .. والسؤال الثاني حول حقيقه العلمانية ومدى توافقها او تخالفها مع مبادئنا الفكرية وحاجاتنا .. اجابة السؤال الاول تقطع نصف الطريق نحو اجابة السؤال الثاني لاننا اذا عرفنا دوافع كل طرف امكننا بسهوله تمييز الحق ومن ثم اتباعه بدون ان نكون افراد في قطيع هذا التيار او ذاك.
معرفة الدوافع ليست عملية معقده .. فالمسأله واضحه وبسيطة .. الدافع .. لدى الاغلبيه .. سياسي بحت وعلاقته بالدين شكليه لا اكثر .. الدليل يظهر بوضوح في تقلب المواقف .. المواقف المبدئية لا تتغير بل هي ثابته مادام الفكر ثابتا .. وتغير الفكر لا يظهر في تغير الموقف من امر ما فقط .. بل يستلزم مراجعات دقيقه وواضحه .. اذن فالتغير الحادث سياسي وليس مبدئي فالمواقف السياسيه هي التي تتغير بمرونه وسرعه حسب الحاجه والمصلحه .. وهذا وصف وليس نقد.
الدافع الرئيسي نحو تكفير العلمانية لم يكن الدفاع عن الدين كمصدر للمبادئ والقوانين فقط .. بل كان الغرض منه الحفاظ على سلطة سياسية/اجتماعية لطبقة معينة تمثل تيارا محددا .. الرسالة التي حملت للمجتمع لم تكن (دعوا عنكم المذاهب الفكرية الاخرى واتبعوا الدين) .. بل كانت (دعوا عنكم التيارات الاخرى واتبعوني انا) .. الامر لا يتضح فقط في رمي تهمة العلمانية في وجه كل مخالف من خارج هذا التيار .. بل حتى التيارات الدينية الاخرى التي تحمل توجهات اخرى تم تجريمها بتهمة انهم (لايحملون الدين الصحيح).
اذن فالغرض لم يكن فرض سيطرة الفكر الديني .. بل فرض سيطرة تيار محدد لديه تفسير محدد للدين .. وكل من يعارض هذا التيار فهو اما عدو للدين ككل .. بمعنى آخر علماني .. واما جاهل بالدين اصلا ويخربه بجهله .. سابقا كنا نقول (دين مصاريه) اعتقادا منا ان الدين محصور فينا فقط .. اليوم مازال الامر كما هو .. فقط المخالف تغير فاصبح هناك (دين الجاميه) بدل (دين المصاريه).
الدافع السياسي ليس محصورا على محاربي العلمانية .. فمؤيديها .. سواء الصريحين او من يؤيدها على خجل .. ينبع جزء لا بأس به من تأييدهم من كونها تنزع القدسية عن الطرف المعادي لهم .. فاذا كانت العلمانية هي المرجع .. لايعود ذاك الطرف ناطق باسم الله .. بل هو مجرد بشر اغراضه نفعيه مما يسهل الصراع معه .. اكبر دليل على ذلك هجوم جزء لا بأي به من هذا التيار على علمانية اردوغان .. كما ذكرنا .. وكأن الافكار التي كانوا يؤيدونها اصبحت فجأه (كخه) بعد ان ظهر تبنيها من حليف للطرف الآخر.
قبل ان اختم حديثي عن السؤال الاول احب ان اضيف نقطتين .. الاولى ان الدافع السياسي ليس تهمة بالضرورة .. فعندما اقول عن طرف انه يهدف للسيطرة على المجتمع فهذا لايعني بالضرورة ان هذه السيطرة غرضها نفعي بحت كتحقيق مكانة اجتماعية او منفعه مالية او امتلاك سلطة .. قد يكون ذلك .. وقد يكون الغرض قناعه تامه بامتلاك هذا الطرف للمشروع الافضل البلد واهله وان تحقيق هذا المشروع لا يتم الا عن طريق السلطة الاجتماعية و/او السياسيه .. بمعنى انهما قد يكونان وسائل لا غايات.
النقطة الثانية .. رغم قناعتي بصحة ودقة التحليل اعلاه .. الا انني لا ازعم انه ينطبق على الجميع .. هو بالتأكيد ينطبق على قطاع لا بأس به من كلا طرفي النزاع .. كم نسبة من ينطبق عليهم ؟؟ الى فئة ينتمي فلان او علان ؟؟ هذه اسئلة اتركها لك عزيزي القارئ.
بعد ان فهمنا الدافع السياسي وراء غالبية النزاع حول العلمانية .. حان الوقت للانتقال نحو السؤال الآخر .. والذي اصبحت اجابته .. بعد ازالة كل الضجيج .. اسهل بالتأكيد .. ماهي العلمانية .. وماهو الصالح والطالح منها.
لن اخوض في النقاش التفصيلي حول تعريف العلمانية واصول منشئها ودوافعه ومراحل تطورها او اختلافات تطبيقها من بلد لآخر .. فالمقال طويل بما فيه الكفاية دون الخوض في هذه التفاصيل .. كما ان الكثيرين كتبوا في هذا المبحث واجادوا .. لكني سأقفز مباشرة للخلاصه معتمدا بشكل اساسي على تحليلي اعلاه.
الخطر الحقيقي في العلمانية هو رفضها الدين كمصدر للتشىريع .. العلماني الحقيقي يرفض تماما اي تشريع يكون مصدرة الدين ويريد دوافع اخرى لتبني تشريع ما من عدمه .. وهذا ببساطه .. يتعارض مع احد اهم اساسات الاسلام.
لكن الاستسلام لنظرية تجريم العلمانية تماما يلقينا في احضان خطر اكبر .. الا وهو احتكار الدين .. عندما تقول ان الدين هو المصدر الوحيد للتشريع فانت لا تخالف اساسا دينيا فقط (انتم اعلم بامور دنياكم) ولكنك ايضا تعطي بعض الفئات حجة حصرية الحق لادعائهم انهم الناطقين الوحيدين باسم الله وبالتالي تجريم كل من يخالفهم وشيطنته .. بل تجريم مجرد نقدهم .. وهذا لا يقل خطرا فهو ايضا تخلي عن احد اهم ثوابت الدين.
الحق .. في اعتقادي .. يكمن في رفض احتكار الدين من قبل اي طرف ومنع اي فئة من ادعاء الملكية الحصرية للحقيقه وانها الناطق باسم الله وان تفسيرها الخاص الدين هو كلمة الله الحق ومن خالفها خارج عن حياض الدين وثوابت الامه.
وان يتم ذلك دون التخلي عن الدين كالمصدر الاول للتشريع .. يجب ان يوجه الصراع نحو احتكار الدين وليس نحو الدين نفسه .. بحيث نرفض كل من يقول (لا للدين) وكل من يقول (من يعارضني يعارض الله) .. فالدين لنا جميعا ويجب علينا جميعا تبنيه ولا يحق لكائن من كان احتكاره.
باختصار .. ثوابت الدين .. وهي المجمع عليها .. لايحق لاحد مخالفتها .. لكن لايحق لاحد ان يفرض فهمه الخاص لكل اوجة الحياة على انه هو ثوابت الدين ويجب اجبار الجميع على تبنيها.
احمد الحنطي
هيوستن .. تكساس
٢٧ نوفمبر ٢٠١٦