الكثير من الحديث عن الديموقراطية

الحديث عن الديموقراطية .. مدحا او قدحا .. يدور في اوساطنا منذ عقود طويلة .. لكنه كان محصورا ضمن نطاقات صغيرة نسبيا .. وكثيرا ما كان يأتي ضمن نطاقات القدح والتكفير .. لكن امواج التحركات في العقد الاخير .. ممزوجة بانفجار ظاهره وسائل التواصل الاجتماعي جعلت الديموقراطية من المواضيع الساخنه التي تناقش يوميا.

لكن الاشكالية في غالبية هذه النقاشات انها لا تشرح ماهي الديموقراطية فعلا .. اما لان فهم من يناقش هذا الامر او ذاك للديموقراطية مشوش .. واما لانه مؤدلج وبالتالي يحصر طرحه ودعاويه ضمن اطار اهدافه الايدلوجية .. وكلا الامرين ينتج عنهما اما لزوم ماليس بلازم او ترك ماهو لازم.

ولان الحكم على الشئ فرع من تصورة .. فقد رأيت انه من المناسب شرح المصطلح وتعريفة بدقه وتفصيل لازالة بعض التشويش الحاصل ونفي بعض الافكار الخاطئة .. هدفي من هذا الشرح ليس ان اقنع القارئ بان الديموقراطية شئ جيد ونظام يجب تبنيه .. ولا ان اهاجمها او اقنع القارئ بانها شر مستطير يجب الهروب منه.

بل هدفي ان يفهم القارئ تحديدا ماهي الديموقراطية .. على ماذا بنيت .. وماهي الاساسات التي بدونها تصبح تجربة ما ليست ديموقراطية حقيقيه .. ويستطيع تمييزها عن الاجتهادات والتجارب الخاصه التي يمكن ان تتبناها امة ما او تتركها بدون ان يخل ذلك بوصف نظامها انه ديموقراطي.

كما سأثبت ان الديموقراطية كأدوات وطريقة حكم يمكن تبنيها وتكييفها مع اي خلفية مبادئية او عقدية مالم تكن تحمل في صميمها خلل في ميزان العدل والمساواة مستخدما الاسلام كمثال .. لاترك للقارئ بعد ذلك الحكم على مدى توافق وتخالف كل تجربه او حتى فكرة تعرض عليه مع الديموقراطية .. كما اترك له حرية تشكيل رأية الخاص مع او ضد الديموقراطية.

الديموقراطية لغة هي حكم الشعب .. تقوم الديموقراطية على مبادئ الحرية والعدل والمساواة .. التجارب الديموقراطية متعدده على مر التاريخ ولكل تجربة منها شكلها وتفاصيلها الخاصه .. لكنها جميعا تتشارك في قاعدتين اساسيتين هما فصل السلطات والتمثيل الشعبي في اختيار جميع السلطات .. التجربة التي تخل باحد هاتين القاعدتين او لا تطبق المبادئ الثلاثة ليست تجربة ديموقراطية.

مع تطور النظرية الديموقراطية .. اصبح لها بناء هيكلي واضح .. في اعلى هذا البناء .. او اسفله ان اردت اعتباره الاساس .. يأتي مصدر مشروعية الدولة .. في الحالة الامريكية مثلا يتمثل هذا المصدر في اعلان الاستقلال .. اعلان الاستقلال وثيقة فوق دستورية وهي مصدر مشروعية الدولة الامريكية .. الوثائق الفوق دستورية غير قابلة للتعديل نهائيا ولا يمكن الاخلال باي بند من بنودها ان احتوت على بنود.

يتبع ذلك الدستور .. وهو عقد بين جهاز الدولة والمواطنين يشرح شكل الدولة واقسامها وواجبات وصلاحيات كل قسم والحقوق الاساسية للمواطنين على الدولة وواجباتهم تجاهها.

الدستور فوق القانون ولكنه تحت الوثائق الفوق دستورية فهو فوق القانون لانه لايمكن اقرار بنوده او تعديلها بمجرد تحقيق اغلبية بل يحتاج درجه اعلى من التوافق ولا يمكن لقانون ان يتعارض مع الدستور .. وهو تحت الوثائق الفوق دستورية لانه قابل للتعديل ولانه لايمكن ان يتعارض الدستور مع الوثائق الفوق دستوريه.

بعد ذلك تأتي السلطات الثلاث للدولة .. السلطة التنفيذية .. السلطة التشريعية .. السلطة القضائية.

السلطات الثلاث مستقله عن بعضها البعض ويجب ان يكون للشعب خيار في تحديد من يتولاها .. رغم ان ذلك قد لايتم بشكل مباشر .. في الانظمة البرلمانية مثلا يختار اعضاء البرلمان رئيس الحكومة .. وفي النظام الامريكي يرشح الرئيس الامريكي اعضاء المحكمة العليا ويوافق على ترشيحة مجلس الشيوخ .. كلا الحالتين لاتمثل خيارا مباشرا للشعب ولكنه خيار غير مباشر لان الشعب هو من يختار الاشخاص المخولين لهذا القرار بشكل دوري.

تتولى السلطة التنفيذية ادارة الجهاز التنفيذي للدولة الممثل في الوزارات والهيئات المختلفه وتتولى السلطة التشريعية الرقابة على الجهاز التنفيذي والتشريع وتتولى السلطة القضائية اجراء المحاكمات بناء على القوانين الصادره من الجهاز التشريعي .. كما تتولى السلطة القضائية مهمه تفسير الدستور واحكامها فيما يخصه نهائية لايمكن للسلطات الاخرى نقضها.

الفصل بين السلطات قاعدة ثابته لايكون النظام ديموقراطيا بدونها .. لكن هذا لا يتعارض مع ايجاد بعض التوازنات بين السلطات الثلاث تمنح بعض القدرات على تعطيل بعض قرارات السلطات الاخرى في حالات معينه بشرط ان لاتكون تصب في صالح فرض هيمنة احد هذه السلطات على البقية .. يسمى نظام التوازنات هذا في الدستور الامريكي ال checks and balances.

اكثر النقاط جدلية في النقاش حول الديموقراطية تكمن في الحرية والتشريع والحقوق .. وهي نقاط مترابطة تستخدم احيانا لانتقاد الديموقراطية واحيانا لانتقاد بعض المطالبات الحقوقيه بحجة مخالفتها رغبات الاكثرية .. لذا سأناقشها بالترتيب.

اولا .. فيما يخص الحرية .. يستشهد العديد من منتقدي الديموقراطية بظواهر ترفضها المجتمعات الاسلامية بينما هي تنتشر وتتقوى في كبريات الدول الديموقراطية مثل الحريات الجنسية وتقنين الشذوذ وماشابه ناسبين ذلك الى الحرية التي توفرها الديموقراطية وتعتبر احد مبادئها الاساسية كما ذكرنا.

لكن هذا الاستشهاد غير صحيح .. فالحرية المقصودة في مبادئ الديموقراطية هي حرية التصويت وليست حرية الممارسات .. فحرية الممارسات ليست مطلقه بل يحكمها القانون .. في امريكا مثلا يمنع القانون الدعارة .. رغم انه يمكن تصنيفها بانها عمل حر يتم بالتراضي بين طرفين .. بالتالي التشريع هو ما يحدد مجال هذه الحرية فالاشكالية الفعلية ان وجدت فهي في التشريع وليست في الحرية.

ثانيا .. التشريع .. حسب المفهوم الشائع للديموقراطية ان المجلس التشريعي يضع الانظمة والقوانين بناء على رأي الاغلبية .. بالتالي اذا رأت الاغلبية تطبيق قانون يصبح ساريا حتى لو تعارض مع حقوق اقلية معينه (وهذه هي النقطة الثالثة) .. يشير البعض ايضا الى تعارض ذلك مع الاسلام ولكننا سنناقش ذلك لاحقا.

الحقيقه ان هذا المفهوم ايضا غير صحيح .. فالجهاز التشريعي ليس مطلق اليد في اصدار الانظمة والقوانين بناء على رغبة الاغلبية حصرا .. فالجهاز التشريعي في النظام الديموقراطي محدود بالتزام الوثائق الاعلى منه والمتمثلة في الدستور والوثائق الفوق دستورية .. الدستور .. ومعه الوثائق الفوق دستورية هما المخولان بحفظ الحقوق وتحديد مدى حدود الاغلبية في التشريع .. الدستور لايمكن تعديلة بتحقيق اغلبية مطلقه (النصف زائد واحد) بل يستوجب درجات اعلى من التوافق .. درجة التوافق هذه تضمن حقوق الاقليات كما ان الدستور لا يكون ديموقراطيا مالم ينص على المساواة في الحقوق بين جميع فئات المجتمع.

في الحالة الامريكية مثلا عندما يقوم الكونقرس باصدار قانون يتعارض مع الدستور فمن واجب المحكمة العليا اصدار قرار بنقض هذا القانون ومنع تطبيقه .. وهناك تجارب متعدده لذلك اخرها نقض بعض فقرات قانون الرعاية الصحية الامريكي المعروف باوباما كير من قبل المحكمة العليا .. في كل الانظمة الديموقراطية يوجد سلطة قضائية عليا (تسمى غالبا المحكمة العليا او المحكمة الدستورية) مخولة بنقض اي قانون او تنظيم او احكام تتعارض مع المصادر القانونية الاعلى سواء كانت الدستور او الوثائق الفوق دستورية.

نأتي الآن للجزء الثاني من حديثنا اليوم وهو الخاص بامكانية تكييف الديموقراطية مع اي مبادئ فكرية او عقدية مالم تخل هذه العقائد بالعدل والمساواة .. وفي هذا الحديث نقض لمقولة تلازم العلمانية والديموقراطية ونقض لمقولة تعارض الديموقراطية والاسلام .. فالحقيقه انه .. وبغض النظر عن ايهما افضل .. الا ان العلمانية والاسلام كلاهما لا يتعارض مع العدالة والمساواة ولذلك فالديموقراطية لا تتعارض مع اي منهما.

لو عدنا لاساسات بناء الدولة في الاسلام .. لوجدنا ان مصدر مشروعية الدولة هو تطبيق الاسلام .. او المصطلح المحبب للتيارات الاسلامية .. رفع كلمة الله .. اذن نحن نتحدث هنا عن وثيقة فوق دستورية هي القرآن .. القرآن حقيقة .. بعكس المقولة الشائعة دستورنا القرآن .. تنطبق عليه كل مواصفات الوثيقة الفوق دستورية في النظرية الديموقراطية .. فهو مصدر مشروعية الدولة .. وهو غير قابل للتعديل .. ولايصح ان تتعارض معه اي وثيقة ادنى منه .. بينما الدستور يمكن تعديلة ويستمد مشروعيته من الوثائق الفوق دستورية.

يأتي بعد ذلك الدستور والذي يجب ان يكتب بطريقة تحفظ مبادئ حرية التصويت والعدل والمساواة .. وهي كلها مبادئ قرآنية .. كما انه يجب ان يحظى بدرجة توافق عاليه تضمن عدم تهميش فئة من المجتمع بسبب اي اختلافات عرقية او فكرية .. كما انه .. بطبيعة الحال .. يجب ان لا يتعارض مع القرآن مصدر مشروعيته.

هذا يتركنا امام تشكيل جهاز تشريعي يصدر قوانين تنظم شؤون الحياة التي نحن اعلم بها مع وجود حدود تمنع تجاوز القرآن ومحكمة دستورية يحظى قضاتها بثقة المجتمع على قدرتها على تفسير الدستور وفرض حدود على قدرة المجلس التشريعي وكل ما يتبع ذلك من خطوات تشكيل للدولة وادواتها واجهزتها.

هذا الطرح يبدو لامعا ومثاليا .. وهذا امر طبيعي في كل تنظير .. لكنه لا ينفي حقيقه وجود صعوبات حقيقيه تواجه اي تجربة ديموقراطية سواء كانت ناشئة او ناضجه .. لكننا بعد ان اصبحنا نفهم البناء الحقيقي لنظرية الحكم الديموقراطية وحدودها .. اصبح لدينا القدرة على الحكم على التجارب المختلفه اولا .. وتقييم الديموقراطية كطريقة لتنظيم العقد الاجتماعي والسياسي ثانيا .. وتقييم الصعوبات والفوائد ثالثا .. وبالتالي نستطيع ان نرى الصورة بمجملها بشكل اوضح ونتبنى خياراتنا وافكارنا بطريقة اصح.

احمد الحنطي
هيوستن .. تكساس
٢١ نوفمبر ٢٠١٦