اذا كنت ممن يتابعون اخبار السياسة الامريكية ولو عرضا فانت بالتأكيد تسمع عن اوباماكير .. وعن حرب الجمهوريين التي بلغت كسر العظم لالغاءه .. فهل تعرف ماهو اوباماكير ؟
اذا لم تكن تعرف فلا تحزن .. كثير من الامريكيين لايعرف تفاصيله الحقيقيه رغم انه قضية محورية في الصراع بين الجمهوريين والديموقراطيين .. السبب انه في الحقيقه يؤثر على فئة قليلة نسبيا من الامريكيين .. سأحاول في مقالي هذا ان اشرح اهم معالم القانون وبعض زوايا الصراع حوله وتوقعاتي لمستقبله.
قبل اوباماكير كان يوجد نظامي تأمين صحي حكومي تمنح للمواطنين .. الاول هو ميديكير .. هذا النظام خاص لكبار السن .. بعد ان يبلغ المواطن الامريكي سن التقاعد وهو ٦٥ سنه يمنح هذا التأمين بشكل مباشر بغض النظر عن اي تفاصيل اخرى .. البرنامج يدار بواسطة الحكومة الفيدرالية بالتعاون مع الولايات .. النظام الثاني هو ميديكأيد وحدود تغطيته اقل من الاول كما انه لايوجد عمر محدد لمنحه فهو مخصص لشديدي الفقر فقط ويدار بطريقه مشابهه لمديكير.
بقية الامريكيين اما يشترون تأمينهم الطبي من شركات التأمين مباشرة او تمنحهم جهات عملهم تأمين طبي كأحد المميزات الوظيفيه .. لم يكن يوجد قانون يجبر جهة العمل على تقديم تأمين طبي للموظفين .. لكن الشركات تحرص على تقديم مثل هذه المميزات لان الموظفين يرغبون بها بشده فهي معفاة من ضريبة الدخل .. بمعنى انك لو كنت موظف يصل دخلك السنوي لشريحة ضريبة الدخل ٢٠٪ مثلا فان منحك ٥٠٠ دولار اضافية في الراتب الشهري تعني انك ستدفع منها ١٠٠ دولار ضريبة دخل .. بينما لو تم منحك تأمين طبي بتكلفه ٥٠٠ دولار فلن تدفع منها اي ضرائب
كما ان الشركات التي تقوم بالتفاوض مع شركات التأمين للحصول على تأمين لعدد كبير من الموظفين تستطيع الحصول على عروض افضل من التي يستطيع الشخص الحصول عليها من شركة التأمين مباشرة .. بالتالي لو افترضنا ان التأمين ابو ٥٠٠ دولار اللي منحته لك الشركة قيمته اصلا لو اخذته مباشرة ٧٠٠ .. هذا يعني ان الشركة منحتك ٣٠٠ دولار زيادة عن ماكنت ستحصل عليه لو منحتك ٥٠٠ دولار زيادة بالراتب بدون ان تتحمل سنت واحد اضافي.
لذلك يفضل العاملون هذه الميزات وتحرص جهات التوظيف على تقديمها .. الغالبية العظمى من الامريكيين يحصلون على تأمين طبي من جهة عملهم .. لكن هذا يترك عدة شرائح خارج نطاق التغطية .. اهم هذه الشرائح هم ابناء الموظفين الذين بلغوا سن ١٨ سنه ولم يحصلوا على وظيفة تقدم تأمين طبي بعد والمصابين بامراض مزمنه قبل حصولهم على تأمين طبي لان شركات التأمين ترفض بيع تأمين عليهم .. وبعض العاملين الذين لاتقدم لهم جهات عملهم تأمين طبي .. هؤلاء تحديدا عادة دخلهم لا يساعدهم على الحصول على تأمين طبي جيد ولاتنطبق عليهم شروط ميديكأيد .. هذه الفئات تبلغ في مجموعها ما يقارب ١٠٪ من الامريكيين .. مع اختلاف النسبه من ولاية لاخرى .. في تكساس مثلا تبلغ النسبة ٢٥٪.
ما الذي فعله اوباماكير لهؤلاء ؟؟ اوباماكير كقانون اسمه الرسمي Affordable Care Act او قانون الرعاية الصحية ذات الكلفة المعقولة ويعرف اختصارا ب ACA .. القانون مكون من ٢٠٠٠ صفحة تقريبا لذا لايمكن شرحة كاملا .. لكني سأتحدث عن اهم معالمه.
اولا .. فرض القانون على شركات التأمين تغطية ابناء مالكي بوليصات التأمين حتى يبلغوا ٢٦ سنه وليس ١٨ سنه فقط.
ثانيا .. منع القانون شركات التأمين من رفض بيع تأمين على المصابين بامراض مزمنه سابقة لحصولهم على التأمين كالسكر والربو وامراض القلب وماشابه.
ثالثا .. فرض القانون حدود دنيا للتغطية جعلت بعض خطط التأمين السابقه التي لم تكن تقدم تغطية تأمين جيدة غير قانونية.
رابعا .. اجبر القانون اي جهه يعمل فيها اكثر من ٥٠ موظف على تقديم تأمين طبي للعاملين بها.
كل واحده من هذه الفقرات لها نتائج سلبية اثارت اعتراضات متعدده .. اولها كان من شركات التأمين نفسها حيث اعترضت شركات التأمين من ان اجبارها على تقديم التأمين لمن لديهم امراض مزمنه يعني خسارة حتمية لهم لان المواطن لن يقوم بالتأمين الا اذا اصيب بمرض مزمن .. بالتالي ستصبح شركات التأمين خاسره حتما فالربح يأتي من الموازنه بين التأمين على الاصحاء والمرضى .. لحل هذه الاشكالية فرض القانون على الجميع الحصول على تأمين طبي تحت طائلة دفع غرامات ماليه قد تفوق كلفة التأمين على من لايفعل.
الثانية .. فرض الحدود الدنيا للتغطية سيرفع تكلفة التأمين بشكل يجعل البعض لا يستطيع دفع كلفته خصوصا ان القانون اصبح يفرض على الجميع الحصول على تأمين متوافق مع الحدود الدنيا المفروضه .. لحل هذه الاشكالية اشتمل القانون على تحمل الحكومة الفيدرالية جزء من كلفة التأمين يتناسب مع دخل الفرد وقد تصل النسبة الى تحمل الكلفه كاملة في بعض الاحيان.
الثالثه .. القانون يسبب ضررا كبيرا للمنظمات الصغيره جدا باجبارها على تأمين طبي للموظفين هم غير قادرين على تحمل كلفته اصلا .. لحل هذه الاشكالية قدم النظام دعم مالي للمنظمات الصغيره يمتد حتى لمن لا يشملهم القانون (اقل من ٥٠ موظف) اذا اختاروا تقديم تأمين طبي.
ايضا كان القانون يحتوي على فقره خاصه بانشاء شركة تأمين حكومية تنافس شركات القطاع الخاص لتوفير حل بديل ارخص والمساعده على ضبط ارتفاع الاسعار .. هذه الفقرة تم حذفها بحكم من المحكمة العليا بحجة عدم دستوريتها.
من الاعتراضات المقدمه ايضا ان حصول عدد كبير من المواطنين فجأه على تأمين طبي سيزيد من الضغط على جهات تقديم الخدمات الصحية مما سيوقع الضرر على الحاصلين عليها حاليا حيث سيصبح الحصول على مواعيد اصعب وستطول فترات الانتظار اكثر .. لاحظ ان غالبية المستشفيات منظمات غير ربحية ونسبة منها تحصل على دعم حكومي .. عملت ادارة اوباما مع المستشفيات على تطوير اساليب العمل وتغيير الاجراءات مدعين ان هذه التغييرات ستقلص العمل لكل مريض وبالتالي ستعوض الزيادة في المراجعين.
لايوجد دراسات دقيقه تثبت بشكل قاطع ماهو التغيير الذي حدث .. لكن الثابت ان الخدمات الصحية لم تتعثر للاغلبية ولا يعرف بالضبط .. بسبب نقص الدراسات على الموضوع حتى الان .. هل هذا ناتج عن الاجراءات الجديده ام ان الادعاء اصلا لم يكن صحيحا.
لكن الواقع ان كلفة التأمين زادت فعلا بشكل ملموس .. هذه الزياده لم تصل المواطن مطلقا .. السبب ببساطه ان المواطن اما يحصل على تأمينه من جهة عمله وبالتالي هي من تحملت الفارق مالم تكن شركة صغيره تتلقى دعم حكومي على التأمين .. واما انه حصل على دعم حكومي يغطي الفارق اذا كان هو من يشتري التأمين لنفسه .. الدعم الحكومي يشمل اي اسره دخلها اقل من ١٠٠ الف دولار وهذا رقم كبير جدا مقارنة بمتوسطات الدخل.
الاعتراض الاخير ان كل الدعومات الحكومية هذي ستزيد الضغط على ميزانية الحكومة الفيدرالية وبالتالي ستؤدي الى زيادة العجز او زيادة الضرائب او كلاهما .. خطة اوباماكير تقول ان الكلفه ستبلغ ترليون دولار على مدى عدة سنوات ولكنها ايضا تقول ان هذا المبلغ سيتم تعويضه بالكامل عن طريق تخفيض كلفة الميديكأيد التي تغطي الحالات الطارئة لان العلاج الوقائي سيقللها كما انها تقول ان اكتمال تأمين جميع الغير مؤمنين سيعكس مسار اسعار التأمين الصاعد وبالتالي يقلل الكلفة على الحكومة .. المعارضين يدعون ان الكلفة اكبر بكثير من الرقم المذكور وان الوسائل المقترحه لن تنجح في موازنتها.
الجمهوريين خاضوا حرب كسر عظم ضد اوباماكير من اللحظة الاولى .. تفرغوا تماما لتعطيلة قبل تطبيقه ولالغاءه بعد تطبيقة مستخدمين كل الحجج الممكنه سواء كانت منطقيه ام لا .. خلال اقل سنه قدم فيها الكونقرس اي عمل حقيقي لدرجة ان الرضى الشعبي عن الكونقرس وصل الى ٧٪ قدم الجمهوريين اكثر من ٤٠ مشروع لايقاف اوباماكير .. كما ركزوا في كل حملة انتخابية لكل مرشح لهم على اي منصب انه سيعمل على الغاء اوباماكير.
لكن المعضلة التي يواجهونها اليوم ان ملايين من المواطنين حصلوا على تأمين طبي بسببه وانهم اذا فقدوا هذا التأمين سيصوتون ضد كل من افقدهم اياه .. كما ان الكثيرين ايضا سعيدين بامكانية تغطية ابنائهم حتى سن ٢٦ سنه خصوصا مع ارتفاع نسب من يواصلون دراستهم للتوافق مع متطلبات سوق العمل الجديده .. والجميع يتعاطف مع المصابين بامراض مزمنه ويرون وجوب حصولهم على تأمين.
كلفة الخدمات الصحية في امريكا عالية جدا .. ليس ارتفاعا متناسبا مع معدلات الدخل عند مقارنته بدولنا مثلا .. بل اعلى من ذلك بكثير .. وهي ترتفع باستمرار وبنسب عالية .. من لايملك تأمين صحي هو فعليا غير قادر على الحصول على الخدمات الصحية التي تتخطى الحد الادنى من الرعاية الاولية .. اصابة شخص لا يملك تأمين (واحيانا حتى من يملك تأمين) بمرض خطير او علاجه صعب تعني افلاسه بشكل مباشر مالم يكن من كبار الاثرياء .. توجد خدمات حكومية وجمعيات خيريه كثيره تساهم في تخفيف الامر .. لكنه تبقى محاولات مساعده فقط ولا تضمن اي شئ .. لذلك الامر حساس ومهم لجميع الامريكيين تقريبا.
هذا وضع الجمهوريين امام معضلة معقده .. لا يستطيعون التراجع عن الغاء اوباماكير لان هذا معناه خيانه للناخبين الذين اقتنعوا بدعايتهم ضده وانه يجب التخلص منه .. سيقولون لهم رددتوا لسنوات انكم يجب ان تصلوا للسلطه لتلغوا اوباماكير .. هاقد اوصلناكم .. لماذا تراجعتم ؟؟ هل كنتوا تخدعوننا ؟؟ هل اوهمتونا انه سئ بينما هو جيد ؟؟
ولا يستطيعون الغاءه لانه يحل اشكالية حقيقيه .. والغاءه سيفجر غضب قطاع كبير من المستفيدين في وجههم .. خصوصا ان الكثير من تحذيراتهم (ارتفاع كلفة التأمين وصعوبة الحصول على الخدمه) لم يمسها المواطن بشكل حقيقي .. تحملت الحكومة الفرق .. الخدمة الصحية لم تتأثر كثيرا .. الضرائب لم ترتفع .. العجز تقلص.
من الصعب .. وربما المستحيل .. التخلص من الجوانب السلبية لاوباماكير بدون فقدان ميزاته .. والجمهوريين لن يجرؤوا على الغاءه تماما .. لذلك نسمع اليوم عن المحافظة على بعض جوانبة .. ومن المثير (وربما حتى المسلي) الانتظار ومراقبة كيف سيحاول الجمهوريين تحقيق مقاربتهم باصلاح اوباماكير بطريقة تحقق مطالبهم ولا تخل بمصالح ناخبيهم.
لا استطيع الجزم بما سيحدث .. ولكني اتوقع انه سيكون تغيير شكلي فقط يحافظ على روح القانون كما هو للخروج من هذا المأزق واسقاط الجزء الاهم من ارث اوباما فلايوجد حتى الان اقتراح فعلي يستطيع المحافظة على ميزات اوباماكير ويتخلص من عيوبه.
الديموقراطيين سعوا لنظام مشابه من عشرات السنين ولم يتمكنوا من تحقيقه الا في عهد اوباما وهذا يثير الجمهوريين كثيرا .. الانجازات التاريخيه الامريكية على الصعيد الداخلي في القرن الاخير كانت كلها ديموقراطية .. من روزفلت الذي انقذ امريكا من الكساد العظيم لجونسون الذي اقر قانون الحقوق المدنية للاقليات لاوباما الذي اقر الرعاية الصحية لكل الامريكيين.
لذلك ترى الجمهوريين يعودون كثيرا لذكر لنكون الذي حرر العبيد فهذا آخر انجاز تاريخي للداخل الامريكي حققه الجمهوريين خارج نطاق الحروب .. حتى نيكسون رئيسهم الوحيد الذي قدم سلاما بفتح العلاقات مع الاتحاد السوفييتي وانهى حرب فيتنام تشوه تاريخه تماما بنهاية حكمة المفجعه عندما خرج مستقيلا وعلى رأسه اكبر فضيحة سياسية في دولة ديموقراطية في العصر الحديث.
احمد الحنطي
هيوستن .. تكساس
١٤ نوفمبر ٢٠١٦