اعرف انني وعدت بتغريدة في تويتر يوم امس ان اتحدث عن العوامل التي جذبت الناخبين نحو ترمب .. لكن بصراحة موسم الانتخابات كان طويلا جدا ومرهقا جدا لدرجة التشبع والاملال .. اضافة الى ان الجميع يتحدث اليوم عن الانتخابات التاريخية .. واي حديث سيقال عنها سيضيع في الضجيج .. لذا قررت ان اكتب في موضوع مختلف .. ولعلي اعود لانتخاب ترمب في وقت لاحق بعد ان يهدأ الضجيج وتشحن البطاريات.
موضوعي اليوم هو عن اعتقاد البعض ان اليهود يتحكمون بمسارات السياسة الامريكية تماما .. هذا الوصف يحمل داخلة الكثير من الصحة والكثير من الخطأ ايضا .. ولكي نفهمه جيدا يجب ان نفهم كيف يتم تسيير السياسة في الدول الديموقراطية عموما وفي امريكا خصوصا .. وكيف يعمل اللوبي الصهيوني في امريكا.
لنبدأ اولا من آلية عمل وتوجيه السياسة في الدول الديموقراطية عموما .. السياسي .. وهي كلمة تشمل اي شخص يسعى للحصول على او يشغل منصب يتم اختيار صاحبة بالانتخاب المباشر او غير المباشر .. يؤثر في المجتمع ويتأثر به.
يتبنى السياسي مبادئ وافكار معينه ويبدأ بالترويج لها بين افراد مجتمعه واقناعهم بها بحثا عن تأييدهم لها ومن ثم انتخابه لشغل المنصب الذي سيسعى من خلاله لتطبيقها .. كما انه يتلقى ارائهم وافكارهم ويسعى لموائمة توجهاته معها والموازنه بين المطالب والمحاذير المختلفه رغبة منه في الحصول على التأييد وبالتالي الاصوات اللازمه للوصول للمنصب الذي يسعى له اولا .. ولتحقيق مطالب ورغبات مجتمعه ثانيا.
رأينا مثلا في انتخابات 2016 الاوليه ان هيلاري كلينتون تبنت عددا من افكار وتوجهات بيرني ساندرز وذلك لانها رأت من حجم التأييد الكبير الذي حصل عليه ان هذه الافكار تحضى بشعبية كبيرة وبالتالي تستحق التبني ولن تخسر كثيرا من التأييد في تبني ما اختارته من توجهاته.
يوجد عاملين مختلفين يسهلان تبني الافكار الجديدة لدى السياسي .. العامل الاول هو مدى قرب هذه الافكار لبرنامجه الانتخابي .. وهذا واضح .. الثاني هو مدى بعدها عن اهتماماته واهتمامات ناخبية .. وهذا العامل مهم جدا وسيصب اغلب حديثنا عنه.
عندما يتبنى السياسي فكرة مهمه لدى الناخبين فهو يتلقى دعم كل من يؤيدها ولكنه ايضا يخسر دعم من يرفضها .. اما اذا كان الامر غير مهم كثيرا لغالبية الناخبين فهو يتلقى التأييد من المؤيدين .. حتى لو كانوا قله .. لكنه لا يخسر تأييد المعارضين فهم تقريبا غير موجودين .. في النهاية الامر غير مهم والغالبية لا يهمها ماذا يفعل السياسي في هذا الامر.
تأييد الناخبين ليس محصورا في جمع الاصوات فقط .. لكنه ايضا يعني الحصول على المزيد من التبرعات والتي تعتبر عاملا مهما في النجاح الانتخابي .. ايصال برنامج السياسي الانتخابي لاكبر عدد من الناخبين وايضاحه لهم واقناعهم به يحتاج الكثير من المال.
في امريكا يوجد قوانين تحد من قدرة صاحب المال على التبرع حيث يوجد حدود قصوى لتبرع الفرد او المنظمة لاي برنامج انتخابي .. صحيح انه يوجد طرق قانونية للتحايل على ذلك لكن الحدود تبقى مؤثرة لذا كل مازاد عدد المستعدين للتبرع زادت امكانية التبرع وفي ذلك نوع من التوازن بين قدرة الغني والفقير على التأثير على مسارات السياسة .. صحيح ان الميزان ليس عادلا تماما كما ذكرنا وصحيح ايضا ان حكم سيتيزين يونايتد الذي صدر خلال السنوات الماضية زاد في خلل الميزان لصالح الاغنياء لكنه مازال هناك نوع من التوازن.
بعد ان القينا نظرة على كيفية عمل السياسي بشكل عام لننظر كيف يعمل اللوبي الصهيوني .. اللوبي الصهيوني نشيط جدا .. منظم جدا .. يحظى بكثير من الدعم والتأييد من قبل الاقلية اليهودية في امريكا (سواء لايمانهم ببرنامجه او لممارسته الابتزاز العاطفي والديني على افرادهم بشدة) وله هدف واحد فقط .. تأييد اسرائيل.
الناخب الامريكي العادي لايرى مشكلة حقيقيه في تأييد اسرائيل .. هو ينظر لها كحليف وكصاحب حق (الانجيل مثلا يؤكد على حق اليهود في فلسطين) كما انه لايهتم كثيرا بالسياسة الخارجية .. بالنسبة لغالبية الناخبين الامريكيين بقية العالم شئ بعيد وغامض ولا يهمه مايحدث فيه كثيرا .. البعض يهتم بالسياسة الخارجية من باب الاهتمام بالامن الوطني لكنهم اولا اقلية وثانيا في الاغلب لايرون ترابطا كبيرا بين الامن القومي وبين دعم اسرائيل من عدمه.
هذا يحقق بوضوح العامل الثاني الذي ذكرناه من عوامل التأثير على تغيير البرنامج الانتخابي للمرشح .. القضية ستكسبه تأييد اللوبي النشط وليست مهمه لدى الغالبية العظمى.
يأتي بعد ذلك تأثير المال الصهيوني .. اليهود ككتله انتخابية تميل كثيرا للديموقراطيين ولا يتأثر ذلك بعمل اللوبي الصهيوني .. يصوت بين ثلثي اليهود وثلاثة ارباعهم لصالح الديموقراطيين في كل انتخابات .. لكن الدعم المالي من قبل اللوبي المنظم واتباعه مربوط بتأييد اسرائيل المطلق فقط .. وهم يحصلون على ذلك من قبل الجميع عن طريق دعم الجميع.
الذي يحدث هو كالتالي .. يجتمع اللوبي الصهيوني مع كل مرشح على حده ويقدمون له العرض التالي .. لايهمنا برنامجك الانتخابي .. سنقدم لك الحد الاقصى من الدعم مهما كان محتواه .. بشرط ان يكون الدعم المطلق لاسرائيل ضمن بنوده .. السياسي هنا يرى انه سيكسب دعمهم بسهولة وبدون تغيير في بنود برنامجه الانتخابي الرئيسية وبدون خسارة ناخبين آخرين في المقابل .. نفس الامر يتكرر مع جميع المرشحين من مختلف التوجهات .. وبهذا تصبح جميع البرامج الانتخابية تنص على الدعم المطلق لاسرائيل.
لكن يبقى اجابة السؤال المحوري .. هل هذا يعني ان اللوبي الصهيوني يتحكم بامريكا فعلا ؟؟ وماهي علاقة استراحتنا بالموضوع ؟؟ اذا كنت توصلت للاجابة من قراءة ماسبق فالغرض من كتابة المقال تحقق ويمكنك التوقف هنا .. اما اذا كنت تريد المزيد من الشرح فتابع القراءة.
الطريقة المفضلة عندي لشرح اي امر هي ضرب الامثلة والتشبيه .. وسأضع لكم هنا تشبيها اعتقد انه مثير ودقيق.
لنتخيل السيناريو التالي .. نحن شلة مكونة من 20 شخص .. نريد بناء استراحة لنا .. جلسنا نتناقش حول كيف يتم تقسيم الاستراحه .. كم المساحه الخضراء ؟؟ كم فيها من حمام ؟؟ مجلس واحد ام مجلسين ؟؟ نبني خيمه ام لا ؟؟ نسمح بالشيشه ام نمنعها ؟؟ كم لمبه بالحوش ؟؟ نشترك ببي ان سبورت ام لا ؟؟ نشتري بلاي ستيشن ام لا ؟؟ الخ
بحكم ان الاراء مختلفه ومتعارضه بشده .. وانها تؤثر على ميزانية بناء الاستراحه .. واعترافا بحقيقة ان قدرة اعضاء الشله الماديه تختلف من شخص لآخر رأينا انه من الظلم ان نفرض اشياء مكلفة على الميزانية لمجرد ان شخصا واحدا يريدها لان بعض الضعوف لايريدونها ولايريدون تحمل تكلفتها ونحن نريد تحقيق اكبر درجة ممكنه من العدالة.
قررنا ان من يريد شيئا يدفع كلفته .. فوجدنا ان ثلاثه من اولاد التجار في الشلة مستعدين لدفع التكلفه كامله لكن الاستراحه ستبنى على هواهم .. وليس امام الضعوف الا الرضوخ .. وهذا ليس عدلا .. فقررنا التالي.
قطة بناء الاستراحه 10 الاف ريال .. من يريد يمكنه ان يدفع اكثر على شرط ان لاتتخطى الزيادة 10 الاف اخرى لضمان تحجيم تأثير القدرة المادية .. كما ان المخطط يجب ان تتم الموافقه عليه من قبل نصف الشله على الاقل ليعتمد لضمان اعلى حد من التوافق.
خمسة تحمسوا للموضوع وشرعوا بوضع مخططاتهم .. كلن منهم بدأ بالاجتماع بافراد الشلة على التوالي .. عندما يذهب لعضو الشله الاول يقول له (اسمع .. اذا بتحطون خيمه بازيد بالقطه الفين .. بس ترى اذا حطيتوا اكثر من حمامين باعترض على مخططكم) .. الثاني يقول (ابي ثلاث حمامات والا باعترض .. موضوع الخيمه ما يهمني .. بس اذا بتحط اشتراك بي ان سبورت باقط زيادة الف) .. وهكذا كل واحد من افراد الشله يقول لكل واحد من الخمسه مطالبه وماهي الاشياء اللي ستجعله يدفع اكثر وماهي الاشياء التي ستجعله يعترض على المخطط.
اللذين يحاولون تصميم المخططات مستمرين بالحوار مع مختلف افراد الشلة ويعملون على الموازنة بين المطالب والاعتراضات .. اذا وضعت خيمه ستكلف 10 الاف ريال زيادة .. لكن يوجد 5 سيدفعون للقطه اجمالي 30 الف زيادة ستمكننا من تحسين المخطط اكثر .. لكن هناك 2 سيعترضون على المخطط بسبب الخيمة .. لكن احدهما مدمن شيشه .. ساحاول ان افاوضه بانه يجب ان يوافق على الخيمه لنستطيع تمرير موضوع الشيشة .. حسنا وافق .. اذن المعترض الآخر خسارة صوته مضمونه .. اشطب كل مطالبه ومحاذيرة من قائمة الموازنات الخاصه بتشكيل المخطط .. كل فرد ممن يحاول تشكيل مخطط لديه قائمة خاصة بالشطب والتعديل والموازنات في محاولة لتشكيل المخطط الامثل وقد يدخل في مفاوضات اضافية .. تريد ثلاثة حمامات اذن لايكفي ان تزيد الفين .. يجب ان تجعلها خمسة.
وهكذا تستمر الحسابات والمفاوضات بين ماذا يزيد وماذا يشطب كل شخص من مخططه وبين محاولات افراد الشلة فرض مطالبهم على المخططات المختلفه وتقديم عروضهم بالزيادة او النقص والتهديدات والصراعات.
في المقابل .. ماذا فعلت انا ؟؟ كل ماتحدث معي احد واضعي المخططات الخمسة قلت له (اسمع .. ما يهمني اي شئ .. اي مخطط تقترحه باوافق عليه .. وبادفع 500 زيادة بالقطه بعد .. بس لي شرط واحد .. اللمبه اللي بزاوية السور من برا تكون زرقاء.)
قلت نفس الكلام لكل المخططين .. كل المخططين في المقابل وجدوا ان لون اللمبه لن يغير الميزانية كثيرا .. وسيكسبون 500 زيادة للميزانية .. ايضا لن يخسروا اي صوت او دعم لانه لا احد في الشلة يهتم بلون اللمبه في زاوية السور الخارجية اصلا فمابالك ان يعترض على المخطط بسببه .. وضع اللمبه الزرقاء اصبح مكسب صافي بدون خسارة تذكر حتى لو كان المكسب 500 فقط لجميع المخططين.
هكذا عندما اكتملت المخططات وطرحت للتصويت رأينا ان جميعها تحوي لمبة زرقاء في زاوية السور الخارجية.
السؤال .. هل هذا يعني اني اتحكم بالشلة واديرها كما اريد ؟؟
الاجابة بنعم قد تكون صحيحه لاني فرضت اللمبة الزرقاء في زاوية السور على جميع المخططات .. لا احد مم المخططين جرؤ على حذفها .. ولكن الاجابة بلا ايضا صحيحة لانه لم يكن لي تأثير حقيقي على اي جانب اخر من جوانب المخططات فكيف اكون من يتحكم بالشلة؟
هذا هو نفس الوضع مع اللوبي الصهيوني .. تستطيع انك تقول انه يتحكم بامريكا لانه استطاع فرض دعم اسرائيل المطلق على الجميع .. لكنك ايضا تستطيع ان تقول لا لانه في المقابل لا يفرض وربما لا يتدخل في اي امر آخر.
احمد الحنطي
هيوستن .. تكساس
10 نوفمبر 2016