بدأ الجدل حول صفقة رفع سقف الدين بمجرد الاعلان عنها فقد رأينا من يهاجمها من الحزبين .. لذا فالتساؤل حول امكانية مرورها مشروع تماما .. لكن الكرة حاليا في ملعب مكارثي زعيم مجلس النواب فهو من يواجه التحدي الاكبر في هذه اللحظات ولنفهم ذلك يجب ان نتحدث بعجالة عن مجلس الشيوخ لنخرجة بشكل ما من الحسبة قبل ان ننتقل لمجلس النواب.
مرور القانون من مجلس الشيوخ يحتاج ل ٦٠ صوتا وهو امر لم يتحقق لاي من الحزبين منذ فترة لا اذكرها .. لذلك فليس من المتوقع من قيادة اي حزب ان تمرر اي شئ هناك بدون حد ادنى من تعاون الاقلية .. قائدي المجلس لم يتدخلا كثيرا في المفاوضات مما يوحي بانهما ينويان دعم تمرير اي اتفاق يتم بين بايدن ومكارثي .. اضف لذلك انه لا مكونيل ولا شومر يواجه تحديات كبيرة داخل كتلته .. هذا يجعل كل منهما على حده قادر على المساعده على تمرير القانون من المجلس بدون مخاوف جانبية كبيرة .. لكن القصة في مجلس النواب مختلفه تماما.
مكارثي يملك أغلبية ضئيلة جدا في المجلس لا تتجاوز ٤ مقاعد مما يجعل تمرير اي شئ عملية صعبة فعلا .. فمابالك عندما يتعلق الأمر بشئ ضخم وحساس دار ويدور حوله الكثير من الصراعات والجدل منذ أشهر او حتى سنوات كسقف الدين والانفاق الفدرالي .. المشكلة هنا لا تأتي من المعتدلين الذين يبدون غالبا مستعدين لدعم توجهات قيادة المجلس .. بل تأتي من المتشددين المعروفين بال Freedom caucus او كتلة الحرية .. هناك مالايقل عن ٢٠ نائبا من هذه الكتلة اعلنوا تمردهم منذ اللحظة الاولى على قيادة مكارثي واجبروه على تقديم تنازلات واسعة لهم في مقابل التصويت لصالحه كرئيس لمجلس النواب وبعضهم بدأ بالهجوم فعلا على الاتفاق منذ البارحة .. هذا يعني ان عملية مرور القانون من المجلس “قد” لا تكون بالسلاسة التي يتوقعها او حتى يأملها البعض خصوصا ان الكتلة اوضحت منذ البداية انها لا تنوي القبول بأي تنازلات بأي درجة او نوع بل تصر على تحقيق جميع مطالبها حرفيا وبالكامل.
أهم هذه المطالب تتلخص في عدة نقاط .. الاولى ان يكون رفع سقف الدين محدودا لا يتجاوز السنه بمعنى ان قيادتي الحزبين ستعودان لنفس العقده قبل انتخابات ٢٠٢٤ .. الثانية ان يتم الغاء مشروع البنية التحتية الناعمة لبادين -والذي اقر قبل انتخابات ٢٠٢٢ تحت اسم قانون مكافحة التضخم- عن طريق ازالة جميع بنوده من ميزانية العام القادم وعلى رأسها برامج الدعم للتوجه نحو الطاقة النظيفة ومشروع اسقاط بعض الديون الدراسية .. الثالثة ان يعاد اجمالي الميزانية الفدرالية لمستوى عام ٢٠٢٢ على ان لا يتم تخفيض ميزانيات الدفاع ولا التأمينات الاجتماعية .. هذا يعني ببساطة ان البنود الاخرى من الميزانية ستشهد تخفيضات تصل الى ٥٠% .. الرابعة ان لا يكون هناك اي زيادات في الضرائب لا على الشركات ولا على كبار الاثرياء .. الخامسة ما يسمى بشرط العمل وهذا الامر فيه تفصيل لكنه باختصار يعني ان تكون برامج دعم مدقعي الفقر مشروطة بالعمل فلا يمنح اي عاطل دعما فدراليا الا باستثناءات محدودة .. ما تطرحه الكتلة منذ اسابيع ان جميع هذه المطالب خطوط حمراء لايمكن المساس بها وانهم لن يوافقوا على اي صفقة لا تحققها جميعا.
تفاصيل الصفقة الدقيقة لم تعلن بعد لكن خطوطها العريضة التي سمعناها على لساني مكارثي وبايدن كل على حده توضح ان غالبية هذه المطالب اما لم تجب ابدا او اجيبت بشكل جزئي و/او محدود فهي تنص على تجميد سقف الدين الى مابعد انتخابات ٢٠٢٤ .. وتنص على وضع سقف الميزانية عند حدود ميزانية ٢٠٢٣ وليس ٢٠٢٢ ورفعها بنسبة ١% في ٢٠٢٥ وانه لاسقف للزيادة فيما بعد ٢٠٢٥ .. وانه لا مساس كبير ببرامج مشروع بايدن للبنية التحتية الناعمة.
التخفيض الاجمالي حسب تصريح لمكارثي في حدود ٢٩ مليار دولار وهو رقم تافه مقارنة بالميزانية التي تبلغ بضعة تريليونات .. لكن النص على عدم المساس بميزانيات الدفاع والتأمينات الاجتماعية والميديكير مع بقاء سقف الصرف كما هو حاليا يعني تخفيضات محدودة في ميزانيات بعض البرامج الاخرى .. ابرز هذه البرامج هو استعادة المبالغ التي لم يتم صرفها بعد من الميزانية الاضافية المخصصه لادارة الضرائب المخصصة لتمكين الادارة من ملاحقة كبار المتهربين من الضرائب بطريقة اكثر فعالية .. قانون مكافحة التضخم نص على تخصيص ٨٠ مليار على مدى ١٠ سنوات لهذا الامر .. حسب حديث مكارثي لاعضاء كتلته تم الغاء ١.٩ مليار لم تصرف بعد من ميزانية ٢٠٢٣ من هذا البند.
اكبر مكاسب الجمهوريين كانت في بند شرط العمل فبالرغم من ان المطالب هنا لم تكن محددة مسبقا الا ان الديموقراطيين كانوا يشترطون اسقاط هذه الفكرة تماما وهذا لم يحدث بل اشتمل الاتفاق على وضع هذا الشرط بحدود وتفاصيل معينه تمثل تنازلات من كل الطرفين (الديموقراطيين اكثر فكما قلنا هم كانوا يرفضون الامر جملة وتفصيلا) .. هناك أيضا بنود في الاتفاق تتعلق بتسهيلات معينة في تصاريح شركات الطاقة .. التفاصيل هنا غير واضحة كما ان الامر لم يكن يمثل خطا احمر لدى الفريدوم كوكس من قبل لكنه على ما يبدو من مطالب المعتدلين في الكتلة الجمهورية كما ان الاعتراضات عليه ليست كبيرة لدى الديموقراطيين في ظل التذبذب الذي شهدته اسواق الطاقة في الفترة الماضية .. أخيرا تنازل الجمهوريون عن شرط اسقاط الديون الدراسية وتنازل الديموقراطيون عن تعديل قانون الضرائب لسد بعض الثغرات التي يستخدمها كبار الأثرياء لتخفيض اجمالي الضرائب التي يدفعونها.
كما نرى الاتفاق ليس مرضيا تماما لاي من الاطراف .. وهذه في الحقيقة هي سمة الاتفاقات الجيدة بشكل عام فالاتفاق الجيد هو الذي يستجيب للحد الادنى من مطالب الطرفين وبالتالي يضمن تحقيق اكثر المطالب اهمية (مهما كان مصدرها) وكذلك يضمن ازالة الشطحات السيئة (مهما كان مصدرها ايضا) .. ولكن هذا يضعنا امام السؤال الهام .. هل سيستطيع مكارثي تجاوز هذا الاختبار؟؟ هو لن يواجه اي صعوبة تذكر مع المعتدلين فهم راغبون في الوصول لاتفاق كما انهم يتمتعون بالمرونة الكافية لقبول بنود لا يوافقون عليها تماما عندما يرون ان خطوطهم الحمراء لم تكسر ويستطيعون اقناع ناخبيهم بانهم حققوا افضل ما يمكن تحقيقه في ظل الظروف التي مر خلالها القانون.
لكن وضع الفريدوم كوكس مختلف فهم يعتبرون ان عدم الحصول على كل ماتريده بكل تفاصيله خسارة كبيرة وان هدم المعبد على رؤوس الجميع ليس بالضرورة امرا سيئا وقد ابدو تمردهم على القيادة منذ اللحظة الاولى لهذه الدورة ويمتلكون قوة لا بأس بها للضغط على مكارثي من خلال التنازلات التي قدمها لهم مقابل حصوله على المنصب.
هذا يجعلنا امام احتمالين .. اما ان يستطيع مكارثي اقناع الفريدوم كوكس بطريقة او بأخرى بعدم معارضة القانون وبذلك يتمكن من تمريره من مجلس النواب بدون دراما كبيرة واما ان يخوض صراعا معهم للتمرير .. اذا ماحدث هذا الصراع فأول مظاهره ستكون في مرحلة تمرير القانون من لجنة القواعد وهي المعنية بتنظيم عمل مجلس النواب والتي تعتبر تقليديا ذراع رئيس المجلس الذي يستخدمه لادارة دورة العمل في المجلس كما يريد .. عند التصويت لمكارثي على رئاسة مجلس النواب اشترط اعضاء الفريدوم كوكس ان يكون لهم ثلاث مقاعد في هذه اللجنة .. اللجنة مكونه من ١٣ عضوا .. ٤ ديموقراطيين و ٩ جمهوريين .. ٣ من الجمهوريين ينتمون للفريدوم كوكس .. مرور القانون يحتاج ل ٧ اصوات على الاقل .. اي انه اذا صوت ال ٣ ضد القانون فهو لن يمر الا بمساندة الديموقراطيين .. وبعد ان يمر القانون من اللجنة ويطرح للتصويت في المجلس فان خسارة مكارثي ل ٥ اصوات من ال ٢٢٢ صوت جمهوري تعني ان القانون لن يمر الا بمساندة الديموقراطيين.
من المتوقع ان يساند عدد كاف من الديموقراطيون القانون فهو كما نرى لا يحتاج الا صوت واحد من اصواتهم الاربعة في اللجنة و ٥ اصوات من اصواتهم ال ٢١٣ في المجلس ليمر وهو امر سهل ان يتحقق في ظل الدعم الواضح لقيادة الديموقراطيين للقانون .. لكنه سيضع مكارثي في مواجهة دامية مع الفريدوم كوكس .. لنتذكر انه قدم تنازلا مهما في بداية الدورة يتمثل في ان اي عضو من اعضاء المجلس يستطيع اطلاق اجراءات عزله من المنصب .. ولو حدث هذا فلا يمكن لمكارثي ان يعتمد على الديموقراطيين في الحفاظ على منصبه حيث انهم بشكل مؤكد سيصوتون لصالح عزله مما يجعل ٥ نواب جمهوريين فقط كافين في الواقع لعزله.
وحتى لو فعل الديموقراطيون ما نعتقد انه مستحيل وصوت بعضهم لصالح بقاءه في المنصب فان سعي مكارثي لتمرير القانون من اللجنة والمجلس باصوات ديموقراطية بل وبقاءه في المنصب باصواتهم ايضا انتحار سياسي -في ظل التشكيلة الحالية لناخبي الحزب الجمهوري- سيقضي على مكارثي نهائيا .. لذا فمكارثي والفريدوم كوكس في مواجهة تحدي صعب فعلا ربما يكون هو المعلم الاهم لتاريخ مكارثي السياسي والذي ستصبغ نتائجه ارث عمله السياسي بالكامل .. ان فشل مكارثي في تمرير الاتفاق الذي ساهم بالوصول اليه او تسبب هذا التمرير في عزله من المنصب فارثه السياسي سيوصم بالفشل وتصبح هذه هي الذكرى الوحيدة الباقية في الاذهان عن تاريخه السياسي بالكامل .. كما ان الفريدوم كوكس بكل تطرفها وصعوبة قيادتها ستؤكد بشكل نهائي انها صاحبة اليد العليا في قيادة الحزب الجمهوري بغض النظر عن مدى ثقلهم الحقيقي داخل الكتلة وربما ينتهي تأثير المعتدلين نهائيا على الحزب لفترة طويلة قادمة.
اما لو تمكن مكارثي من تمرير القانون بسلاسة فهو سيثبت نفسه كقائد بارز فعلا طوع الفريدوم كوكس في اضعف لحظاته .. لكنه ايضا سيسم الفريدوم كوكس بالضعف وربما النفاق امام الفئة الاهم من ناخبيهم (وليس بالضرورة ناخبي الحزب الجمهوري بالمجمل) مما سيضعف الكتلة ويقلص تأثيرها مستقبلا بشكل ملموس وقد يتسبب في خسارة بعض اعضاءها لمقاعدهم في انتخابات ٢٠٢٤.
نانسي بيلوسي وضعت امام هذا التحدي في عدة مناسبات سابقة كان آخرها قانون البنية التحتية والذي مررته فعليا باصوات جمهورية لكن مكارثي ليس بيلوسي والتقدميين ليسوا الفريدوم كوكس -خصوصا ان التمرد على نانسي كان يأتي غالبا من المعتدلين وليس من التقدميين- لذا فالفترة القادمة حساسة فعلا لمكارثي وللفريدوم كوكس ولاقتصاد البلاد -بل واقتصاد الكوكب كله- الذي قد يكون معلقا بالغرور الشخصي بل وحتى السطحية لحفنة من النواب المتطرفين .. ودمتم،
أحمد الحنطي
تكساس
٢٥/٥/٢٠٢٣