من الصحيح القول بأن الوقت مازال مبكراً على الخروج بأي توقعات للإنتخابات الرئاسية في ٢٠٢٤ .. صورة الإنتخابات النصفية في ٢٠٢٢ لم تتضح بشكل حاسم بعد .. فمابالك بإنتخابات الرئاسة التي بقي عليها ٣ سنوات .. لكن هذا لا يمنع أن نلقي نظرة متأملة على الوضع الحالي فلهذه النظرة فوائد على مستويات مختلفة.
المستوى الأول يتعلق برسم مرجع للوضع الحالي يمكن العودة له مستقبلاً لمقارنة الصورة في ذلك الوقت بما نراه الآن .. هذا سيجعل إجابة سؤالي (ما الذي تغير؟) و (لماذا حدث هذا التغيير؟) أسهل وبالتالي نستطيع رصد مسارات التغيير ودوافعة وبناء عليه نستطيع أن نضع توقعات ذات مدى أبعد في ذلك الوقت بطريقة أقرب للدقة.
المستوى الثاني خاص برصد السلوك السياسي لمختلف الفاعلين في ساحة السياسة الأمريكية .. كثير من السلوكيات التي سنراها منهم خلال الفترة القادمة ستكون محكومة بالنظرة نحو إنتخابات ٢٠٢٢ و ٢٠٢٤ لذا ففهم صورة الإنتخابات الرئاسية اليوم .. حتى لو كانت صورة مؤقته قابلة للكثير من التغيير .. سيساعدنا على فهم دوافع هذه السلوكيات ويمكننا من وضع كثير منها في سياقها الصحيح.
رغم إختلاف الأسباب بدرجة أو أخرى .. إلا أن أرقام الرضى عن أداء الرئيس بايدن اليوم مقاربة كثيراً لأرقام ترمب في أواخر ٢٠١٧ .. هذه الأرقام إنتهت بترمب لخسارة إنتخابات ٢٠٢٠ .. هذه الحقيقية دافع كبير اليوم لعدد من السياسيين الطامحين للترشح في ٢٠٢٤ عن الحزب الجمهوري لحسم قرار الترشح .. مهما كان الرئيس الموجود في البيت الأبيض تبقى مهمة إخراجه صعبة مما يدفع بعض السياسيين لتأجيل مساعيهم للترشح للدورة التالية التي غالباً لن يكون الرئيس مرشحاً لخوضها .. لكن هذا المؤثر أضعف اليوم للسبب الذي ذكرناه ولأسباب اخرى تتعلق بساحة الترشح الديموقراطية.
يوجد ثلاثة احتمالات مختلفة لشخصية المرشح الديموقراطي في ٢٠٢٤ .. الإحتمال الأول هو أن يعيد الرئيس بايدن ترشيح نفسه .. وهذا هو الإحتمال الأرجح .. بغض النظر عن شخص الرئيس فإنه تاريخياً إحتمال فوز الرئيس بإعادة الإنتخاب لا يقل عن ٨٠% .. الحالات التي لم يعد الرئيس ترشيح نفسه فيها نادرة ودائما كانت محاطة بأسباب صارخة .. فهل يوجد أسباب اليوم قد تدفع بايدن للتنحي وفتح المجال أمام مرشح ديموقراطي آخر؟؟
ضعف أرقام بايدن ليس مبرراً كافياً لمثل هذا التصرف .. لذلك فالمؤشرات تميل إلى أنه سيكون المرشح القادم للحزب الديموقراطي مالم يحدث أحد أمرين .. الأول أن يتعرض لعارض صحي خطير .. بايدن كبير في السن وكبر سنه لم يكن عاملاً شديد التأثير في ٢٠٢٠ لأن منافسه كان مقارباً له في السن وصحته كانت مستقرة .. لكن هذا قد يتغير في ٢٠٢٤ لو شهدت صحة بايدن تدهوراً خلال السنتين القادمتين بطريقة تجعل من إعادة ترشحه مغامرة غير محسوبة .. هذا إحتمال مجهول لأنه ليس لدينا ما يمكننا أن نبني عليه توقعات مستقبلية لصحة الرئيس.
الأمر الثاني هو أن تستمر أرقام بايدن بالانخفاض لمستويات خطيرة حتى يقترب موعد خوض المنافسة على الترشيح .. هذا الإحتمال صغير لكنه وارد وذلك لسببين .. الاول هو ان المؤشرات الحالية تشير إلى أن الأوضاع -سواء على مستوى الإقتصاد أو وضع الوباء أو المشاريع التشريعية الكبيرة- قابلة للتحسن مستقبلا أكثر مما هي قابلة للتراجع لذا فإحتمال بقاء أرقام الرئيس بايدن كما هي أو إرتفاعها مرجح أكثر من هبوطها.
السبب الثاني هو الإستقطاب الحزبي .. السنوات الأخيرة أثبتت أنه مهما فعل الرئيس ومهما كانت الأوضاع والأحداث فإن هناك قطاعات لن تغير رأيها في أداء الرئيس .. هذه القطاعات موجودة في كل الإتجاهين بمعنى أن هناك نسبة كبيرة لن ترض عن أداء بايدن مهما فعل وهناك نسبة كبيرة أخرى ستظل راضية عنه مهما فعل أو حدث .. هذا يجعل مجال تحرك الأرقام صعوداً وهبوطاً محدود لذلك يمكننا أن نميل كثيراً إلى أن أرقام بايدن لن تنخفض بدرجة تجعل إعادة ترشحه صعبة.
ولكن إذا ما تحقق أحد هذين العاملين ولم يعد بايدن ترشيح نفسه فهذا سيفتح باب المنافسة بين الديموقراطيين لخوض السباق مكانه .. في هذه الحالة ستكون نائبة الرئيس كامالا هاريس هي الاقرب للفوز بترشيح الحزب .. ترشيحها ليس مضمونا ولكن حظوظها أكبر من غيرها بشكل واضح .. وحتى لو لم تفز هاريس بترشيح الحزب فالمرشح لن يكون بعيداً عن بايدن سياسياً .. بمعنى أنه سيكون مرشحاً ينتمي لتيار يسار الوسط فالمعتدلين أقلية صغيرة في الحزب الديموقراطي لا تستطيع أن توصل أحدهم لترشيح الحزب.
وهذا ينقلنا للإحتمال الثالث والأخير وهو فوز مرشح تقدمي بترشيح الحزب .. شخص مثل ساندرز أو أوكاسيو-كورتيز أو أي اسم آخر يتبنى توجهات مشابهة .. هذا الإحتمال ضعيف جداً فالمزاج العام لناخبي الحزب مستقر على أن ترشيح سياسي تقدمي بدرجة كبيرة غير محبذ إما لأن الناخب لا يرغب بالذهاب بعيداً نحو اليسار أو لأنه يرى أن هذا سيؤدي لخسارة الإنتخابات .. كل الشواهد الأخيرة تؤكد ذلك ورغم أن التقدميين مازالوا يكسبون سباقات إنتخابية هنا وهناك إلا أنهم خسروا أغلب السباقات الحساسة التي خاضوها في الفترة منذ ٢٠٢٠ وحتى اليوم .. لذا يمكننا تجاهل هذا الإحتمال وحصر التوقعات في أن المرشح القادم سيكون بايدن نفسه أو شخص قريب جداً من خطه السياسي.
تقديم مرشح بديل لبايدن سيضعف حظوظ الديموقراطيين قليلاً فمهما كان المرشح الجديد قريباً من خط الرئيس إلا أنه لا يمتلك المقومات التي تخدم حظوظ إعادة انتخاب الرئيس عادة .. ترشح بايدن أو مرشح آخر مشابه له سياسياً لن يؤثر كثيراً على طريقة تعامل الجمهوريين مع السباق .. فقط هو يرفع أو يخفض الحظوظ بشكل محدود لذا فالجمهوريين لا يفقدون الكثير من النوم وهم يفكرون في “من سيكون مرشح الديموقراطيين القادم؟” .. لذا فما لم ترتفع أرقام بايدن بشكل كبير فإن سلوكهم نحو الترشح والإنتخابات لن يتأثر كثيراً .. ولهذا سبب إضافي آخر هو أن الجمهوريين مشغولين بمشاكلهم الخاصة في هذا المجال.
فيما يخص شخصية المرشح الجمهوري المحتمل .. يوجد لدينا ثلاث إحتمالات .. الإحتمال الأول هو أن يظهر مرشح من التيار المعادي لترمب ويحاول الفوز بترشيح الحزب .. أسماء من نوع ليز تشيني أو آدم كينزينقر أو جيف فلايك أو بين ساس .. خوض أفراد من هذا التيار للسباق محتمل جداً .. لكن فوز أحدهم بالترشح أمر آخر .. حسب الوضع الحالي .. من المستبعد جداً أن يتمكن أحدهم من إنتزاع ترشيح الحزب .. مزاج مصوتي الإنتخابات الأولية للحزب الجمهوري معادي لهذه الفئة ومن بقي منهم في منصبه بالكاد سيستطيع الفوز بإعادة الترشح لمقعده فمابالك بالترشح للرئاسة .. لذا يمكننا تجاهل هذا الإحتمال كما تجاهلنا إحتمال فوز تقدمي بترشيح الحزب الديموقراطي فكلاهما غير وارد حالياً.
الإحتمال الثاني أن يكون المرشح هو ترمب نفسه أو سياسي آخر قريب من خطه يخوض الإنتخابات بنفس طريقته وأجندته .. رون ديسانتس أو جوش هاولي مثلاً .. أو حتى ترمب جونيور .. يمكن طرح الكثير من الأسماء المحتملة هنا فالساحة الجمهورية اليوم مليئة بمتقمصي شخصية ترمب .. إحتمال فوز ترمب أو أحد القريبين من خطه السياسي بترشيح الحزب الجمهوري كبير فعلاً .. لكن الفوز بالإنتخابات العامة قصة اخرى .. الديموقراطيون يعتبرون أن ترشح ترمب أو شخص قريب منه بدرجة كبيرة تسمح لهم بربط الإثنين معاً أكبر هدية يمكن أن يقدمها لهم الحزب الجمهوري في ٢٠٢٤ .. أسباب ذلك سنناقشها بعد قليل.
الإحتمال الثالث هو أن يتمكن مرشح أكثر إعتدالاً من ترمب ولكنه ليس معارضاً له من الفوز بترشيح الحزب .. الساحة الجمهورية اليوم ليست متقبلة كثيراً لمرشح من هذا النوع .. هناك أغلبية واضحة بين مصوتي الإنتخابات الأولية للحزب الجمهوري تريد ترمب أو سياسياً آخر على شاكلته مرشحاً للحزب .. هذا يجعل هذا الإحتمال وارداً وإن كان غير مرجح .. لكنه يمثل الكابوس الذي يبقي الديموقراطيين مستيقضين ليلاً.
كما ذكرنا أعلاه .. الديموقراطيون يتمنون ترمب أو سياسياً آخر على شاكلته مرشحاً منافساً لهم لأنهم يعتقدون أنهم قادرين على هزيمة مرشح من هذا النوع فوجود اسم ترمب على قائمة التصويت أو وجود اسم آخر يمكن ربطه بقوة بترمب دافع قوي لقطاعات كبيرة من الناخبين للخروج خصيصاً للتصويت ضد هذا المرشح .. بينما وجود مرشح يستطيع الحصول على تزكية ترمب وإستمالة قاعدته بدون أن يمكن ربطه بقوة بترمب يضع الديموقراطيين بين مطرقة حماس قاعدة ترمب التي ستصوت لهذا المرشح وسندان إفتقاد القطاعات المعادية لترمب لدافع التصويت ضده وبالتالي بعضهم سيصوت معه وبعضهم لن يصوت أصلاً.
لدى الديموقراطيين شواهد حية تدفعهم لهذه القناعة .. هم هزموا ترمب في ٢٠٢٠ وهو في عز قوته ونفوذه وتأثيره .. وفي رأيهم لا يوجد شئ يمنعهم من تكرارها .. حتى في عهد مابعد ترمب .. المقارنة بين إنتخابات فرجينيا ونيوجيرسي من جهة وإنتخابات كاليفورنيا من الجهة الأخرى تجعلهم يثقون كثيراً بهذه الرؤية .. وهذا الرأي مهم فعلاً ويستحق التوقف عنده.
التحليل هنا لا يعتمد على اسم الفائز بدرجة كبيرة فنسب قواعد اليمين واليسار بين ناخبي الولايات الثلاث متفاوته وتؤثر كثيراً على نتيجة الإنتخابات فيها .. لكن الارقام تتحرك بإتجاه واحد وهو إتجاه يدفع نحو هذه القناعة بقوة.
لن أشرح الأسباب بالتفصيل هنا فهذا المقال ليس مجالها وهو طويل بما فيه الكفاية .. لكنه كان متوقعاً تماماً أن تميل نتائج الإنتخابات الثلاث لليمين بنسب ملموسة مقارنة بنتائج ٢٠٢٠ .. نحن نتحدث عن إختلاف تقريبي من ٥-٧ نقاط في فرجينيا و ٧-١٠ نقاط في نيوجرسي و ١٠-١٥ في كاليفورنيا .. هذه كلها تغييرات لو تحققت فهي ستؤدي لفوز المرشح الديموقراطي وكانت ستجعل الديموقراطيين يرون أن خسارتهم للأصوات ضمن الحدود المعقولة ولا تشير إلى أنهم في طريقهم لتحقيق خسائر كبيرة في ٢٠٢٢ أو ٢٠٢٤.
لكن ماحدث فعلاً هو أن الخسارة في فرجينيا ونيوجرسي كانت بحدود ١٢ نقطة بينما في كاليفورنيا كانت بحدود ٥ نقاط فقط .. بل إنه في كاليفورنيا كانت نتيجة الحاكم نيوسم أفضل من النتيجة التي حققها عندما انتخب أول مرة في ٢٠١٨ .. فما هو الفارق؟؟
الفارق يكمن في طبيعة المرشح الجمهوري .. في نيوجرسي وفرجينيا .. والثانية تحديداً لأن السباق فيها كان تحت المجهر على المستوى الوطني .. كان المرشح الجمهوري ينتمي لفئة (ليس ضد ترمب ولكنه ليس قريبا منه أيضا) .. ماكأولف المرشح الديموقراطي في فرجينيا حاول كثيراً ربط منافسه الجمهوري يونقكن بترمب لكنه فشل في ذلك فإستطلاعات الرأي تؤكد أن هذا الربط ليس راسخاً في أذهان الناخبين رغم أن ترمب زكى يونقكن .. النتيجة كانت محافظة يونقكن على التأييد العالي ونسب المشاركة المرتفعة في المناطق النائية التي يسيطر عليها ناخبوا ترمب بدون أن يخسر تأييداً كبيراً في الضواحي التي خرجت للتصويت ضد ترمب بنسب عالية في ٢٠٢٠ مما مكنه من تحقيق توازن كافٍ ليفوز .. أمر مشابه حدث في نيوجرسي فبالرغم من أن الحاكم الديموقراطي ميرفي تمكن من الفوز بإعادة الإنتخاب الا أن الفارق كان صغير جداً مقارنة بما حققه بايدن في ٢٠٢٠.
في كاليفورنيا الأمر كان مختلفاً .. التصويت لم يكن في انتخابات تقليدية لمنصب الحاكم بل كان إستفتاءاً لسحب الثقة من الحاكم وحسب القانون في كاليفورنيا يكون هذا النوع من الإستفتاءات على شكل سؤالين .. الأول يقول مامعناه (هل تريد نزع الثقة من الحاكم؟) والثاني (إذا عزل الحاكم من تريد أن يحل محله؟) وإذا جائت الإجابات بنعم على السؤال الأول أكثر من ٥٠% فإنه يتم عزل الحاكم وتعيين من صوت له أكبر عدد في السؤال الثاني مكانه بدون إجراء إنتخابات أولية تحدد مرشحي الحزبين.
لكن بالرغم من عدم وجود اسم لمرشح وحيد للحزب الجمهوري إلا أن إستطلاعات الرأي وأحجام الدعم كانت تشير بوضوح لاشك فيه أن لاري إيلدر كان المتصدر بين الجمهوريين وبفوارق كبيرة .. إيلدر ليس سياسياً تقليدياً فهو شخصية إذاعية لكنه ينتمي للتيار الترمبي بقوة .. هذا جعل مهمة نيوسم بربطه بترمب وبالتالي إخراج معارضي ترمب لصندوق الاقتراع سهلة لدرجة أن دعايته الإنتخابية كانت تركز على فكرة (ضع لا على إجابة السؤال الأول ولا تضع أي شئ في السؤال الثاني) والرسالة المرسلة للناخبين من وراء هذه الفكرة هي أنه إذا عزل نيوسم فالبديل ترمبي لا محالة .. لذا يجب الخروج والتصويت لصالح بقاء نيوسم .. فعلاً نجحت الرسالة وحقق نيوسم فوزاً كبيراً بمقاييس ذلك السباق.
الديموقراطيون يضعون كل هذه التحليلات نصب أعينهم ويعقدون آمالهم على أن الحزب الجمهوري غير قادر على تقديم مرشح تنطبق عليه مواصفات يونقكن .. في المقابل الجمهوريون .. حتى من يعتقد بصحة هذه التحليلات منهم .. يشكون بإمكانية تكرار نجاح فرجينيا فما فعله الحزب الجمهوري في فرجينيا لضمان أن لايكون مرشح الحزب شديد الترمبية صعب التكرار فسيطرة من يتبنون مثل هذا الرأي على طريقة إجراء الإنتخابات الأولية في اغلب الولايات محدودة والناخبون لا يريدون ذلك .. كما أنهم يواجهون تيارا من السياسيين الذين يرون أن وسيلتهم الوحيدة لتحقيق مكاسب شخصية (مكاسب سياسية وليست مادية) تكمن في أن يكونوا ترمبيين أكثر من ترمب لذا فسيسعون بكل جهدهم على أن لا يتم تجنيب المرشحين الترمبيين بأساليب يمكن اعتبارها ملتويه كما حدث في فرجينيا.
احمد الحنطي
هيوستن .. تكساس
١١ نوفمبر ٢٠٢١