شكاوى التيارات السياسية من شبكات التواصل .. والكونقرس

السؤال الذي يشغل بال كل المحترفين في قطاع التقنية وجانب كبير من مستهلكي التقنية هو “ماهو مستقبل شبكات التواصل الاجتماعي؟” .. الإجابة باختصار “لا أحد يعرف” .. لكننا إذا فهمنا ماهي الإشكاليات التي تحيط بهذه الشركات فقد نتمكن من بناء إستنتاجاتنا الخاصة حول مستقبلها.


فهم الواقع الحالي يتطلب بحث عدة محاور أهمها .. من هم الغاضبون مما تفعله شبكات التواصل الإجتماعي؟؟ وماهي دوافع غضبهم؟؟ وكيف نتج هذا الوضع الذي يغضب الجميع؟؟ ولماذا لا يوجد أي محاولات جدية حتى الآن ولا حتى أفكار محددة حول كيف يمكن التعامل مع دوافع هذا الغضب؟؟ سنحاول في هذا المقال إجابة كل هذه الأسئلة.


إجابة السؤال حول من هم الغاضبون بسيطة .. الجميع غاضب .. لكن دوافع هذا الغضب ليست بنفس الوضوح والمباشرة .. فبالرغم من وجود سمات عامة لطرح كل تيار حول “ماهو الشئ السئ الذي تفعله شبكات التواصل الإجتماعي” إلا أنه تحت السطح يوجد تداخل كبير يمكّن المدقق من رؤية تناقضات متعددة في طرح التيارات المختلفة.


لنبسط الأمر بعض الشئ .. التيارات التي تميل نحو اليسار بشكل أو بآخر تقول بأن شبكات التواصل الإجتماعي تقوم بترويج محتوى مضلل بحثاً عن مزيد من تفاعل المستخدمين والذي ينتج بدوره المزيد من المال.


هذه الشكوى تستند على حقيقة كون أطروحات نظريات المؤامرة مهما كانت شاطحة فهي ليست جديدة .. بل كانت ومازالت موجودة في الثقافة الأمريكية .. لكن الشخص العادي الذي لا يحاول تتبع هذه النظريات لم يكن يتعرض لهذا المحتوى بهذه الكثافة .. يمكن ان تمر أشهر او حتى سنوات بدون ان يسمع بأي منها .. قد يمر عليه حديث لشخص ما او فلم وثائقي من هنا او هناك كل بضعة أشهر لا أكثر.


اليوم تبحث ألقوريثمات شبكات التواصل الإجتماعي عن أكثر محتوى مثير للتفاعل .. وهذا يعني غالباً أنه محتوى مثير للجدل .. ثم تبدأ باظهاره أمام كل من تتوقع أنه قد يهتم به او يتفاعل معه.


مثال مبسط .. يأتي مستخدم ويسجل في فيسبوك ويضغط زر متابعة حساب ترمب .. هذا المستخدم قد لا يكون مهتماً بنظريات المؤامرة أو حتى لم يسمع بها أصلاً .. لكن ألقوريثمات الفيسبوك ستملأ شاشته مباشرة بأطروحات الكيوانون وبكل شئ يتحدث عن كون الكوفيد ١٩ كذبة ومؤامرة كبيرة وبأن التطعيم أداة تدمير ستقضي على البشرية الخ.


وهذا قد لا يتوقف عند حدود الفيسبوك .. فكل شئ اصبح مترابطاً الآن .. بل ستلاحقه هذه الأطروحات في كل مكان يتوجه إليه في الإنترنت .. هذا سيجعل نسبة من هؤلاء الأشخاص يبدأون بالإعتقاد بأن الجميع يتبنى هذه الأفكار ويتحدث عنها وأنهم هم وحدهم الغافلون عما يحدث حولهم .. ومع الوقت سيبدأون هم بانفسهم بالبحث عنها ومتابعة آخر مستجداتها وتبني أطروحاتها.


المثال مبسط جدا بغرض شرح الفكرة .. ما يحدث قد يكون أعقد من ذلك وفيه تفاصيل ودرجات مختلفة .. لكن النتيجة في النهاية حسب أطروحات هذا التيار لا تختلف كثيراُ عما يصوره هذا السيناريو.


بينما عندما نتجه لليمين نبدأ بسماع شكاوي من نوع مختلف .. تتبنى هذه التيارات فكرة أن شبكات التواصل الإجتماعي تدار من قبل اناس ينتمون للنخبة الليبرالية ولذا فهم يعادون كل ماهو يميني أو محافظ ويريدون قمع أطروحات اليمين وفرض أجندة تقدمية بالقوة.


لذا فهم يتحدثون عن تجميد بعض الحسابات المتطرفة وتحجيم نشر أنواع معينة من المحتوى بل ويؤكد بعضهم أن تجميد حسابات ترمب يمثل قمة هذا القمع معتبرين أن هذه السلوكيات تتعارض مع حقهم في حرية التعبير.


كل من الأطروحتين تطالب بتبني توجهات معينة لحل الإشكالية التي تطرحها لكن هذه الحلول -بل وحتى الإشكاليات نفسها- تحمل تناقضات مع مطالب طارحيها وهذا سيتضح اكثر في الأجزاء التالية من المقال .. لكن قبل ذلك يجب علينا أن نجيب السؤال حول كيف نتج هذا الوضع الذي يمكن من خلاله لهذه الشركات أن تفعل ماتريد بدون أن يتمكن أي طرف من محاسبتها؟


في الأصل شبكات التواصل الإجتماعي منصات خاصة تتبع لملاكها وعليه فلهم مطلق الحرية في تحديد ما يسمحون به وما يمنعونه .. هذه قرارات تحريرية خاصة بهم لا يمكن منازعتهم إياها.


الإعتراض على حذف شبكة تواصل إجتماعي لمحتوى معين أو منع شخص معين من إستخدامها يستند على حق هذا الشخص بحرية التعبير .. لكن الحقيقة ان إجبار أي منصة على نقل محتوى تعارض نقله هو ما يخل بحق حرية التعبير وليس العكس.


عندما تجبر فيسبوك على نقل وعرض أطروحات ترمب فأنت تخل بحق فيسبوك بالتعبير واتخاذ قراراتها التحريرية الخاصة بها .. حق ترمب -او أي شخص آخر- في التعبير ينتهي عند حدود حقه بإطلاق منصته الخاصة او إستخدام الفضاء العام.


هناك بضعة إستثناءات محدودة تتعلق بالقنوات التلفزيونية المفتوحة ولكن هذه الإستثناءات مبنية على منح هذه القنوات حق إستخدام ذبذبات البث -والمملوكة في الاصل للدولة أي لجميع المواطنين- بالمجان وحتى هذه الإستثناءات محدودة ومنصوص عليها بالتفصيل في القانون.


لكن حرية التعبير وحق إنتاج و/أو نقل المحتوى الذي تريده يرتبط بالمسؤولية عن هذا المحتوى .. بمعنى أنه من حق أي وسيلة إعلامية أن تقول ما تريد .. لكن في المقابل يمكن للمتضرر من تعبيرها اللجوء للقضاء لمحاسبتها إذا تجاوزت حدود القانون سواء كان هذا التجاوز مدنياً أو جنائياً.


هذا يعني أنه كما يحق لشبكات التواصل أن تختار المحتوى الذي تنقله وذلك الذي تمنعه .. فهي تتحمل مسؤولية أي تجاوزات في هذا المحتوى .. إذن لماذا لا يمكن محاسبة شبكات التواصل الإجتماعي على كل المحتوى المخالف الذي يملأ أروقتها؟؟


الإجابة تكمن فيما يسمى البند ٢٣٠ .. وهي فقرة في القانون الفيدرالي وضعت في الأصل لحماية شركات الإتصالات والإنترنت من مسؤولية نقل محتوى مخالف للقانون بدون تعمد المشاركة في الجريمة.


عندما يقوم شخص ما بتوصيل رسالة تخص التنسيق بعمل إجرامي مثلاً فهو متورط في المسؤولية القانونية حتى لو لم يشارك في تنفيذ الجريمة أو التخطيط لها .. بنفس الدرجة عندما تقوم وسيلة إعلام ببث محتوى لم تنتجه هي فهي تتحمل مسؤولية التجاوزات الموجودة فيه مادامت إختارت عرضه.


لكن شركات الاتصالات والانترنت تنقل الكثير من المحتوى بدون أن تعرف ماهو بالضبط .. هذه الفقرة وضعت لتحمي هذه الشركات من هذه المسؤولية القانونية وهو أمر منطقي .. اذا كانت شركات الاتصالات ستتحمل مسؤولية محتوى كل مكالمة او موقع توفر الإتصال بينه وبين زواره او حتى تستضيفه على خادماتها فهي لن تتمكن من العمل .. الفقرة تشترط حسن النية .. بمعنى أنها تقول ما معناه “اذا نقلت شركة إتصالات أو إنترنت محتوى مخالف للقانون بحسن نية فهي تمتلك حصانة من محاسبتها على هذا النقل جنائياً ومدنياً.”


شبكات التواصل الإجتماعي التي تستند للتعديل الأول وحرية الصحافة والتحرير في حذف المحتوى الذي لا تريده .. تختفي خلف هذه الفقرة لحمايتها من مسؤولية نقل بقية المحتوى الموجود في منصاتها مهما كانت طبيعة هذا المحتوى.


هذا الوضع الفريد الذي يمنح شركات التواصل الإجتماعي حرية كاملة بدون أي مسؤولية هو مصدر هذا الخلاف والهجوم فهو يجعلها تفعل كل ماتريده بدون تحمل أي مسؤولية نتيجة أفعالها.


إذا كانت المشكلة واضحة .. لماذا لا يتم حلها؟؟ لأن الحل متعذر فنحن أمام سبيلين لهذا الحل .. الأول رفع حماية البند ٢٣٠ عن شبكات التواصل الإجتماعي والذي يعني ببساطة قتلها .. هذه الشبكات تقوم أصلا على فكرة تمكين إنتاج ونقل كميات مهولة من المحتوى الخاص الذي يتم إنتاجه فردياً وجماعياً حول العالم .. تحميل الشركات مسؤولية قانونية عن هذا المحتوى يعني أنها ستضطر لوضع بوابات لفحص المحتوى قبل السماح بعرضه .. هذا متعذر لضخامة المحتوى .. ولو تحقق لفقدت شبكات التواصل ميزتها الكبرى لأنها لن تتمكن من فحص هذا الكم المهول من المحتوى خلال وقت مناسب وستفقد ميزتها الرئيسية وهي سرعة وعفوية وضخامة المحتوى المنقول.


الثاني هو إستمرار هذه الحماية ولكن تحت تصنيف هذه الشبكات كمنصات عامة وليست خاصة .. هذا سيعني أن كل من يطرح أي محتوى في هذه الشبكات يمارس حقه في التعبير ولا يمكن منعه .. فقط يمكن محاسبته عند مخالفته للقانون .. الشركات نفسها تحت هذا التصنيف سيكون لديها حصانة كامله كما هو الوضع الآن وأكثر .. لكن لن يكون لديها القدرة على التحرير .. هذا سيعرضها لإشكالية كبرى ستقضي عليها تماما.


القاعدة المجربة مراراً وتكراراً هي أن المحتوى السئ يطرد المحتوى الجيد .. كل تجربة أطلقت تحت شعار الحرية الكاملة إنتهت بتحول المنصة الى غابة من الطرح المقزز والمتجاوز والذي ينفر منه أغلبية المستخدمين.


كلنا يعلم ان شبكات التواصل تعج بالمحتوى الخارج سواء كان محتوى جنسي او لا أخلاقي او متطرف الخ. عندما تكون أنت كمستخدم رافضاً لهذا المحتوى لكنك لا تتعرض له داخل شبكات التواصل الاجتماعي لأن القوريثماتها إما تحذفه أصلاً أو على الأقل تضعه بعيداً عنك تصبح النتيجة أنك تتعرض للمحتوى المقزز من وجهة نظرك بشكل محدود كمصادفات كأن ترى منشورا من هذا النوع كل ١٠ او ١٥ يوم مثلا فأنت ستتجاوزه سريعا لما بعده.


لكن عندما يصبح هذا المحتوى المقزز في رأيك هو أول ما يواجهك كل يوم .. ستتوقف عن إستخدام هذه المنصة .. ولأنك انت صانع المحتوى في الأصل فمع توقفك عن الإستخدام سيتقلص المحتوى الجيد أمام المحتوى المقزز حتى يقضي عليه ويقضي معه على غالبية مستخدمي هذه الشبكات.


إذا كان التعديل الجذري متعذراً .. فماذا عن تعديل جزئي .. إيجاد تصنيف قانوني جديد خاص بشبكات التواصل الإجتماعي يفرض شروطاً مبتكرة على طريقة عملها يمكن من خلالها ضمان توازن في طريقة عمل هذه الشركات بحيث يمكنها الاستمرار بالعمل بنجاح مع تجنيب المجتمع للآثار السلبية لها؟؟


حسنا .. “إيدي على كتفك” فلا احد يعرف كيف يمكن أن يتم ذلك .. وبالتحديد المشرعين في الكونقرس فهم لا يعرفون أي شئ عن طريقة عمل هذه الشركات .. كثير منهم بالكاد يعرف أسماءها.


هؤلاء المشرعين لا يريدون قتل الدجاجة التي تبيض ذهباً .. لذلك هم متحفظون جداً في مسار تقنينها .. حتى لو صرخ بعضهم في المؤتمرات السياسية حول وجوب فعل هذا الأمر أو ذاك .. فهم يهمهم أن تستمر هذه الشركات في العمل والنجاح وأن لا يقوموا بإخراج أي قانون يحد من نموها ونجاحها.


أهمية هذه الشركات ليست في كونها أعمالاً ناجحة فقط .. عندما يحرص مشرعوا الكونقرس على حماية فيسبوك فهم لا يفكرون في ثروة زوكربيرق بل يفكرون بالأثر الحقيقي الذي نتج عن هذه الشبكات.


هذه الشركات تحولت إلى أغوال عملاقة تمتد أصابعها الى جيب كل معلن حول العالم .. بسبب فيسبوك وقوقل وغيرها أصبحت نسبة من كل ميزانية إعلانية ترصد في أي مكان في العالم تذهب لأمريكا .. عندما ترصد شركة إطارات في الهند ميزانية إعلانية لتصل لعملاءها في مدراس فجزء من هذه الميزانية سيذهب لكاليفورنيا.


هذا نجاح هائل لا يريد أحد المساس به ولا إيقافه .. لذلك فهؤلاء المشرعين يترددون ألف مرة قبل التفكير في إتخاذ أي إجراء قد تكون نتائجه سيئة على إستمرار نمو ونجاح النموذج الذي تقوم عليه هذه الشركات.


لكن إستمرار الوضع الحالي للأبد مستحيل .. لايمكن الإستمرار بالإعتماد على ان هذه الشركات حسنة النية وتعرف ماذا تفعل .. فالتجارب تتراكم كل يوم لتأكد انهم ليسو بذلك النقاء .. وانهم لا يعرفون حقا ما يفعلونه .. وعليه يجب فعل شئ ما لحل هذه الإشكاليات.


لكن هذا الحل سيتأخر حتى يحدث أحد أمرين .. إما أن يتوقف نمو هذه الشركات وتبدأ في التراجع بطريقة تجعل الخشية من التعامل مع طريقة عملها الداخلية أقل .. أو أن يأتي جيل جديد من المشرعين يعرف حقاً كيف تعمل هذه الشركات من الداخل بالضبط ويمكنه وضع تشريعات تضمن تحييد سلبياتها بدون شل قدرتها على العمل والنمو والنجاح.


لا يبدو أن أي من هذين الأمرين قابلاً للتحقق في المستقبل القريب .. لكن الأحداث أحياناً تتسارع أكثر مما نتوقع والمتغيرات تظهر فجأة وتقلب الطاولة على كل ما كنا نعتقد أنه مسلمات.


ودمتم،

احمد الحنطي
هيوستن .. تكساس
١١ اكتوبر ٢٠٢١