حجم وابعاد فضيحة الفيسبوك وماهي نتائجها المستقبلية

تحدثت في عدة تغريدات خلال الايام القليلة الماضية عن فضيحة الفيسبوك الأخيرة وحجم غضب الامريكيين سواء كانوا اعلاميين او سياسيين او حتى افراد بسببها .. لكن رغم معرفة المتابعين بماحدث الا ان الكثيرين غير متفهمين لدوافع هذا الغضب الحقيقيه خصوصا ان سياسة فيسبوك في التعامل مع بيانات المستخدمين سيئة من الاصل وهذا ليس بأمر جديد .. لذا سأحاول شرح الدوافع بشكل اوضح واكثر تفصيلا.

جميع وتحليل بيانات المستخدمين بطريقة صحيحة يسمح ‏بتوجيه رسائل مخصصه ترفع احتمالية التأثير على سلوكهم .. سواء كان السلوك هذا اقتصادي او سياسي .. هذا ليس جديدا كما ذكرنا .. الجديد يكمن في امرين .. الاول هو الفارق بين الاقتصادي والسياسي .. والثاني هو الفارق بين تملك البيانات والتعامل معها بطريقه تحقق فائدة مادية .. وبين التعامل معها بلا مبالاة وعدم مسؤولية بطريقة تعرض الفرد والمجتمع للخطر.

لنبدأ بالفارق بين الجانب الاقتصادي والسياسي .. بالرغم من وجود حملات متعدده بين قطاعات لا بأس بها من الامريكيين تنادي بالحفاظ على خصوصية البيانات ومنع استثمارها الا ان هناك قطاعات منهم تقبل درجة اعلى للاستخدام الاقتصادي للبيانات مما يقبل به المروجين لهذه المطالب .. فالهدف الاقتصادي ينحصر في استنتاج البضاعه التي تناسبك اكثر ومن ثم عرض اعلاناتها امامك.

هذا هدف تجاري يراه البعض مشروعا حتى لو كان هناك درجة من الاستغلال فيه .. الصفقه تتم هكذا .. تقوم شركة التقنية (سواء كانت فيسبوك او قوقل او غيرها) بتقديم خدمات متطورة لك بالمجان .. في المقابل تحصل على بيانات حول سلوكك واهتماماتك وتستخدم هذه البيانات في البحث عن منتجات تناسب ذوقك او حاجتك وتعرض اعلاناتها امامك .. ماهي الخسارة الحقيقيه التي تعرضت لها؟؟ اذا ماتركنا موضوع ملكيتك لبياناتك وحقك الحصري في تحقيق مكسب مادي من وراءها جانبا فانت في نظر هذا القطاع الكبير لم تخسر شيئا .. بالعكس ربما تكون كسبت من وراء ذلك.

بعض المسؤولين الكبار والاثرياء لديهم مايعرف بالمتسوق الخاص personal shopper وهو شخص يتعرف على ذوقك واهتماماتك ثم يتوجه للسوق الذي يمتلك خبرة في التعامل معه للبحث عن المنتجات التي ستعجبك ومن ثم يحضرها لك .. ما المانع من ان تعمل فيسبوك او قوقل كمتسوق خاص لكل فرد حتى لو لم يكن رئيس شركة او وريثا لثروة عريضة؟؟

لايؤمن الجميع بذلك .. لكن انتشار هذه النظرة لابأس به .. كما ان الشخص يحمل قناعة داخليه بانه محصن ضد الاعلان بمعنى انه لايتضرر فعليا من عرض اعلانات عليه فقرار الشراء في النهاية له وان تعرض امامه اعلانات تناسبه اكثر وتركز على اهتماماته افضل من ان يرى اعلانات لمنتجات لا تهمه طوال اليوم.

لكن التلاعب بالتوجه السياسي امر مختلف ويثير الغضب .. خصوصا اذا ماربطناه بحملة الاخبار الزائفة والمنظمات والحسابات الوهمية التي اغرقت الانترنت خلال السنوات القليلة الماضية .. الامر تحول من البحث عن افضل منتج يناسب ميولك وحاجتك .. الى البحث عن افضل كذبة تقنعك (او تثير خوفك) للتحكم بسلوكك الانتخابي حسب ما اريد وليس حسب قناعاتك حول ماهو الافضل لك ولبلدك ومجتمعك.

سأحاول تحوير المواقف لتتشابه مع واقعنا المحلي من اجل فهم السيناريو المخيف الذي فجر غضب الامريكيين .. تخيل ان هناك انتخابات محلية لاعضاء مجلس الشورى .. وانني قمت بجمع بيانات سرية وغير معلنة عنك تشمل على سبيل المثال لا الحصر مكان اقامتك .. من الذي تتابعهم .. من الذين تبلكهم .. ماهي الرسائل والمقالات التي قمت بالاعجاب بها .. ماهي الرسائل والمقالات التي لاتعجبك .. الخ.

وبناء على هذه البيانات قمت برسم خارطة لاهتماماتك .. مطالبك .. ومخاوفك .. لنقل مثلا انك مؤيد لتوطين الوظائف .. ومؤيد ايضا لتجنيس الكفاءات .. لكنك غير مؤيد لتجنيس ابناء المواطنات لانك لا ترى ان حجة مساواة الرجل بالمرأه مقنعه .. هناك مرشحين يتنافسان على صوتك .. احدهما حريص على توطين الوظائف .. معارض للتجنيس .. لكنه يؤمن بحق المرأه بمنح جنسيتها لاطفالها مثل الرجل .. الآخر سجله السياسي يثبت انه غير مهتم فعليا بموضوع التوطين .. لايعارض تجنيس المواليد بالمطلق بل يرى انه يجب ان يتم ولكن بشروط ويرى ان نفس هذه الشروط يجب ان تطبق على ابناء المرأه قبل منحهم الجنسية.

نظريا عندما تعرف المعلومات الصحيحة فانت ستصوت للمرشح الاول فهو رغم وجود اختلاف الا انه اقرب لتوجهاتك كثيرا .. هنا يأتي دور قوى الشر التي تعرف كل شئ عنك.

قامت قوى الشر هذه بنسج شبكة كبيرة من الحسابات والصفحات والمدونات الوهمية التي تحوي كمية هائلة من الاكاذيب والاخبار الزائفة والقتها في الانترنت .. الاشكالية لاتقف عند نشر هذه الاكاذيب فقط .. لكنها تمتد لاستغلال بياناتك الخاصه والسرية للتلاعب بك .. كيف يمكن ان يحدث ذلك؟؟

ضمن شبكة الاكاذيب التي بنتها يوجد سلسلة من الحسابات والرسائل والاخبار المزيفة التي تؤكد ان المرشح الاول يؤمن بوجوب وجود مساواة تامة بين الرجل والمرأه .. اكثر من ذلك .. هي تقول بانه يدعو لفتح مجالات العمل كلها امام المرأه فهو يرى انها يجب ان تعمل في السباكة والنجارة والكهرباء وقيادة سيارات التاكسي .. كما انه لايكتفي بالمطالبه بمنح الجنسية لابناء المواطنات ولكنه يطالب بالغاء شرط التصريح للزواج من اجنبية وان لديه اكثر من بنت متزوجه من اجنبي وان احفاده لم يحصلوا على الجنسية الخ. من الكذبات المصممه لاثارة مخاوف محدده .. القاء هذه الاكاذيب في الانترنت امر سئ بحد ذاته .. لكن فعاليتها تبقى محدوده بالنسبه والتناسب.

اذا كانت هذه الاكاذيب تخاطب مخاوف ١٠٪ من الناخبين الذين يراد التلاعب بهم .. واستطاعت الوصول الى ٤٠٪ من اجمالي الناخبين .. فهي نجحت في التلاعب بسلوك ٤٪ من الناخبين .. هذه هي الصورة التي كان يرسمها المتابع للاوضاع في الاشهر او السنوات الاخيره حول حجم تأثير الاخبار الزائفة وهي كانت تثير الكثير من الغضب بصورتها هذه.

لكن المخيف هو ان قوى الشر والكذب هذه .. وبسبب جشع وغباء وسوء اداء الفيسبوك (وربما غيرها ايضا) استطاعت ان ترفع نسبة الوصول ٦٠٪ من الناخبين .. كما استطاعت ان تضع امام كل شخص منهم كل الاكاذيب المفصلة خصيصا لاثارة اشد مخاوفة واعز رغباته .. هنا ترتفع نسبة احتمال التأثير من ٤٪ الى ٦٠٪.

هذا فارق مهول واثارة مخيفة .. نحن هنا لا نتحدث عن خداعك لشراء حذاء ب ١٥٠ دولار .. ولكننا نتحدث عن سرقة صوتك وقدرتك على التأثير التي يعتبرها كثير من الامريكيين اغلى ما يملك.

الدعاية السياسية جزء من اللعبة الانتخابية .. والوصول لاكثر الفئات توافقا مع توجهات السياسي احد اهم مهام الحملات الانتخابية .. لكنها تبقى في حدود واضحه ومرسومه بدقه .. فهي اولا دعاية تصل على شكل اعلان وليست خداع وتلاعب .. ثانيا الفرص فيها متساوية بين المرشحين .. لذلك توجد قوانين مفصلة لتمويل الحملات الانتخابية وحق الاعلان ومنع منح شخص او جهه اكثر مما يحصل عليه منافسيه في المنصات العامه.

لكن ماوصفناه ليس دعاية انتخابية ويعارض كثيرا من القوانين التي تنضم العملية الانتخابية .. والاخطر من هذا كله انه يفتح باب التأثير الخارجي على مصراعية .. وهو امر يعتبر شديد الخطورة .. في النهاية جميع السياسيين بمختلف توجهاتهم يسعون لصالح البلد حتى لو اختلفوا حول ماهو الافضل لتحقيق هذا الصالح .. لكن التأثير الخارجي لايهتم بذلك مطلقا .. هو في افضل الحالات يهتم بتحقيق مصالح جهات خارجيه قد تتعارض مع مصالح البلد وفي اسوأها يسعى خصيصا للاضرار بالبلد واضعاف قدرتها على التأثير.

حجم تأثير هذه العمليات المشبوهه كبير وفضح تسريب هذا الحجم المهول من البيانات فسر ظواهر كانت غامضه .. مثلا في تكساس حدثت قصة اثارت استغراب الكثيرين وانا منهم .. حدثت مواجهه بين جماعتين .. الاولى مسلمين والثاني معادين للاسلام .. تم حشد المؤيدين للطرفين وتنظيم مظاهره ومظاهره مضاده في نفس المكان تهدف كل منهما لمنع الاخرى وفعلا تم الامر وحدثت المواجهه وتدخلت اجهزة الامن لفض الاشتباك .. فيما بعد تم اكتشاف ان كلا الجماعتين وهمية لاوجود لها الا على الفيسبوك فقط وانهما من ضمن عمل الروس للتأثير على الانتخابات الامريكية.

منبع الاستغراب انه لا احد تقريبا سمع بالامر .. رغم ان عدد المشتركين في كلا الصفحتين كبير وان عدد من حضروا المواجهه ايضا كبير .. الا ان حجم المعرفة بالحدث وتغطيته (قبل او حتى بعد حدوثه) كانت ضعيفة .. وهذه القصة ليست حالة فريدة بل هي مجرد مثال .. الكثيرين كانوا يتسائلون .. كيف تمكنت مجموعات وهمية لانشاط لها على الارض ولم يسمع بها احد ان تنجح في حشد هذه الاعداد الكبيرة نسبيا؟؟

قصة تسريب البيانات تفسر كيف حدث هذا .. دعاية هذه الجماعات ناجحه بشده بسبب قدرتها على مخاطبة مخاوف ورغبات طيف واسع بدقه .. ومن لا تستطيع هذه الجماعات استثارة مخاوفة او رغباته فهي لم تحاول الوصول له اصلا لذا لم يسمع بها .. قوى الشر اصبح لديها خريطة مفصله تضعهم امام شاشات اهدافهم بالضبط وبيدهم كل مفاتيح شخصياتهم.

هذا لايعني ان البقية محصنين .. فقط يعني ان الاكاذيب التي تعرضت انت (ايها المواطن الامريكي) لها تختلف عن اكاذيب هذه المجموعه تحديدا .. ربما ان من تلاعب بك لم يكتشف بعد لا اكثر.

لتتخيل حجم الخطر تذكر ان اختراق الفيسبوك للمجتمع الامريكي ضعف اختراق تويتر للمجتمع السعودي حيث ان اثنين من كل ثلاث امريكيين لهم حسابات نشطه في الفيسبوك وان واحد من كل اربع مستخدمين للفيسبوك في امريكا تسربت بياناته في هذه الفضيحة .. هل هذا يكفي لاثارة الرعب والغضب؟؟ الم تحدث عمليات تسريب اخرى؟؟

الجمهوريين كانوا ومازالوا يتعاملون مع قضية الاخبار الزائفة وتلاعب الروس بتحفظ لاسباب متعدده اهمها انهم متهمين بالاستفادة منها وتدعيم الادعاء بحجم هذا التلاعب يضر بمشروعية انتصاراتهم الانتخابية ويضر بجهودهم لحماية الادارة الحالية من المسائلة القانونية .. بل ربما يكونون يشعرون ببعض الشماته الداخليه فمن المعروف ان حملة اوباما الانتخابية كانت تفخر بمدى جودة ادائها على المستوى التقني وكيف انها تمكنت من تحريك اكبر قدر ممكن من القواعد الانتخابية الديموقراطية للتصويت باستخدام القنوات الالكترونية.

لكنهم يعلمون جيدا ان هذا الامر سلاح ذو حدين وانه اذا كان خدمهم اليوم فهو سيضر بهم مستقبلا لا محالة .. ويعلمون اكثر انه يهدد بتحقيق اكبر مخاوفهم الا وهو فتح باب التأثير الخارجي على مصراعية .. ومهما قيل من ادعاءات حول التواطؤ بين حملة ترمب وبين الروس وحتى لو ثبت هذا مستقبلا فهو لايعني ان الحزب الجمهوري متورط ولا يعني انهم سيقفون متفرجين امام مايحدث .. بل سيتحركون وبصرامة ايضا وان اتسمت حركتهم بالهدوء او تأخرت قليلا بسبب حسابات سياسية مرحلية.

لذلك اجزم ان قضية الفيسبوك لن تتوقف حتى لو ظهر انها نسيت او ابتعدت عن عناوين الاخبار الرئيسية في الفترة القادمة .. ماحدث مخيف ومقلق ومثير لاقصى درجات الغضب لدى من تم التلاعب بهم قبل من تم التلاعب ضدهم .. لذا فتقنين وسائل التواصل الاجتماعي قادم لا محالة .. السؤال فقط حول كيف ومتى .. ماهي نوعية ومستوى التقنين الذي سيحدث بالضبط؟؟ متى ستبدأ اول الخطوات ومتى سيكتمل المشوار؟؟ كم ستبلغ نسبة ضرر كبريات شركات التقنية نتيجة لهذا التقنين؟؟ هل سيبلغ التأثير لدرجة تغيير مراكز الشبكات المختلفه؟؟ هل سيتسيب في ظهور لاعبين جدد يبتلعون نسبة كبيرة من السوق ويحولون كبار اليوم الى صغار في الغد .. هذه اسئلة مهمه اجاباتها قد تغير شكل وطريقة العمل السياسي لعقود قادمة كما انها قد تنقل عشرات او مئات المليارات من الدولارات من مكان لآخر.

ودمتم،

احمد الحنطي
هيوستن .. تكساس
٢٤ مارس ٢٠١٨