لنعيد الناشر ليصبح مستثمرا .. لا مجرد مقاول

مع بداية معرض الرياض الدولي للكتاب .. وكما يحدث كثيرا .. بدأ تداول الصور والتعليقات حول تفاهة محتوى كثير من الكتب المطروحة .. لكننا كما في كثير من الحالات فشلنا في تحديد طبيعة المشكله ومكمن الخلل .. وسأحاول معكم اليوم استكشاف ذلك.

هل لدينا مشكله في نشر كتب تافهه؟؟ في المطلق الاجابة الطبيعية لا .. فالكتب سوق كغيرة من الاسواق .. والسوق عرض وطلب .. ومادام هناك طلب فيجب تلبيته بالعرض .. ففي الحقيقه ان كل ما يلاقي طلبا جماهيريا لايجب ان يوصف بالتافه فالترفيه مهما كان شكله هدف مهم واستثمار رئيسي وقراءة كتاب صعب ومفيد تستلزم قراءة عدة كتب مسلية.

اذن اين المشكله ؟؟ المشكله هي في اغراق السوق بانتاج تافه لايجد اقبالا حقيقي من قبل القراء واغلاق الباب امام امكانية نشر انتاج افضل .. افضل بمعنى انه يلاقي طلبا وليس بمعنى ان حضرتنا راضين عن مستواه او محتواه.

هذه هي الاشكالية الحقيقيه .. وهي موجوده وواضحه .. ارفف مكتباتنا مليئة باعداد كبيرة من الكتب التي لا يقرأها احد .. بينما لو ألفت انت احسن الكتب لحفيت وراء دور النشر ولم تجد من ينشره لك.

ماهي اسباب هذه المشكله؟؟ اجابة هذا السؤال تكمن في جملة واحدة وهي ان “نشر الكتب لم يعد يتطلب ان يحقق الكتاب ربحا ماديا” .. قاعدة العرض والطلب اختلت فالعرض لم يعد يهدف لتلبية الطلب .. وهذا الامر نتيجة لظاهرتين بدأتا منذ فتره لا بأس بها وتزدادان باستمرار .. الاولى هي ظاهرة نشر الكتب بغرض “الترزز” فقط .. والثانية هي ضعف المردود المادي لعملية النشر .. الظاهرتين مترابطتين وهما معا أديا للوضع الذي نراه اليوم .. ولنفهم اكثر سنتتبع القصة من البداية.

في الماضي كان الناشر يقرر كم كتاب سينشر في السنه .. لنفرض مثلا عشره .. بالتالي هو يقرر ان اربعه منها يجب ان تحقق ربحا كبيرا .. واربعه يمكن ان تحقق ربحا متوسطا .. وهذا يجعله يستطيع ان يغامر بكتابين ينشرهما لكتاب مغمورين يميل لاحتمالية نجاحهما فهو يستطيع تحمل نسبة مخاطرة عاليه معهما لو لم يبيعا بشكل جيد.

بالتالي يتفق الناشر مع اربعه من الكتاب المشهورين اللذين يتعامل معهم ونجاحهم مضمون ويدفع لهم مبالغ محترمه .. ويقدم عروضا ويخوض مفاوضات مع عدد من الكتاب متوسطي الشهره حتى يصل لاتفاق يراه معقولا مع اربعه منهم .. واخيرا يلتفت لما عرض عليه من الكتاب الجدد اللذين حفوا وهم يتنقلون من دار نشر لاخرى بحثا عن من يقبل بنشر انتاجهم ليختار منهم اثنين يميل لاحتمال نجاحهم رغم انهم مغمورين ويمنحهم مبالغ محدوده مقابل حقوق النشر توازي نسبه المغامره اللتي يخوضها بنشر هذه الكتب.

في السنه التالية يكرر نفس الامر .. وبين فتره واخرى “يفرقع” معه احد الكتاب الجدد وبالتالي يوقع معه عقدا جديدا لنشر كتب اضافية مقابل مبالغ افضل .. نجاح دار النشر هنا مرتبط بقدرتها على التمييز بين الكتاب الذي سينجح وبين الكتاب الذي سيفشل وكلما زادت كتبها الناجحه زادت قدرتها على نشر كتب اكثر واستقطاب كتاب اكثر والمغامرة مع كتاب مغمورين اكثر .. والعكس صحيح.

لكن هذه الدورة اختلت .. اسباب الاختلال بدأت في انتشار قرصنة الكتب بشكل مخيف .. الحقيقه ان القراءة منذ عقود تحقق مكاسب كبيرة كل يوم .. لكن عجلة النمو هذه تعطلت بسبب القرصنة فازدياد معدل استهلاك الكتب نتيجة لازدياد القراء وازدياد كمية ما يقرأون لم ينعكس بنفس المستوى على ازدياد مبيعات الكتب لان نسبة كبيرة من هذا النمو تذهب لصالح الكتب المقرصنه .. هذا جعل الناشر لايحقق المكاسب المرجوه من عملية النشر .. فعندما يغامر الناشر مع كاتب مغمور فخسارته حتميه لانه حتى لو نجح الكتاب فهو لن يبيع منه الكثير من النسخ لان غالبية من يقرأونه سيحملونه مقرصنا من الانترنت .. حتى الكتب مضمونة النجاح واللي تغطي مداخيلها العالية نسبة كبيرة من خطر المغامرة مع الكتاب المتوسطين والمغمورين اصبحت لاتحقق المردود المرجو بسبب القرصنه.

نتيجة هذا ان دور النشر اصبحت تحجم عن المغامرة او تقلصها بشكل كبير لان نسبة الخطر ارتفعت بشكل كبير جدا.

بالتوازي مع هذا زاد حجم طبقة الكتّاب الذين يهدفون فقط “للترزز” .. هؤلاء الكتاب يذهبون لدور النشر ويدفعون جميع مصاريف النشر .. هنا الناشر لم يعد مستثمرا في الكتاب بل اصبح مجرد مقاول ينفذ عمليات النشر مقابل تحصيل مصاريفها مع هامش ربحه من المؤلف .. المؤلف ايضا ليس مستثمرا يبحث عن الربح بل يبحث عن الشهره او عن لقب كاتب .. هنا اصبح هناك دوافع اخرى للعرض مختلفه عن الطلب .. هذا الاختلال في اهم معادلات السوق (العرض والطلب) هو السبب الرئيسي وراء تدني مستوى الانتاج.

الناشر الذي كان ينشر ١٠ كتب في السنه منها ٦ لكتاب متوسطين ومغمورين على حسابه ويدفع للكتّاب مقابل حقوق التأليف .. اصبح ينشر كتابا واحد او اثنين للكتاب الكبار مضموني النجاح و ٨ او ٩ كتب لطالبي الترزز .. هكذا استمرت دورة انتاج الكتب بالعمل لكن بمخرجات شديدة السوء لا تحكمها قواعد العرض والطلب ولم يعد الكاتب المغمور مطالب بكتابة كتاب يقنع المستثمرين بامكانية نجاحه .. بل اصبح مطالبا بتدبير مصاريف النشر بغض النظر عن مدى جودة محتوى كتابه.

هذه المتوالية لم تدفع طبقة الكتاب السطحيين والتافهين راغبي الترزز للسطح فقط .. لكنها ايضا كبتت الكتاب المغمورين الجيدين اللذين لديهم احتمالية نجاح معقولة .. مهما كانت ثقة الكاتب المغمور بقدرته فهو غالبا غير قادر على تحمل نسبة المخاطرة بتحمل النشر على حسابه .. الناشر خبير في المجال لذا فهو يستطيع تبين الكتاب القابل للنجاح بنسبة خطأ اقل بكثير من نسبة خطأ كاتب ناشئ مغمور لا يحمل الا كيبوردا وحلما .. هذا حصر امكانية النشر لدى طبقة محدودة قادرة تماما على تحمل خسارة كامل كلفة النشر بدون ان يرمش لها جفن .. اما لان قدرتها المالية عالية .. واما لان المردود المطلوب ليس ماديا اصلا.

في النتيجه نقول ان تحول الناشر من مستثمر الى مقاول الغى مرحلة تصفية الكتب التي كان يقوم بها الناشر بدافع ضمان المكسب مما تسبب في اغراق السوق بكتب لايوجد عليها اي طلب حقيقي .. مالم يكن العرض بهدف تلبية طلب حقيقي فانه لن يلبي رغبات المتلقي ولن يسعى لتحسين منتجه و/او خدمته .. النتيجه الحتمية هي منتج سئ.

حل هذه المشكلة لن يتم الا بإعادة دور الناشر كمستثمر في عملية النشر وليس مقاول فقط .. هذا لن يتم بإغلاق باب النشر على حساب الكاتب فهذه الظاهرة موجودة في كل زمان ومكان .. لكنه من الممكن ان يتم عن طريق اعادة المكسب الى عملية النشر .. وهذا لن يحدث الا بالقضاء على ظاهرة قرصنة الكتب او تحجيمها بشكل كبير على الاقل.

الحقيقه ان كتب “الترزز” قد تكون عاملا ايجابيا لانها تعطي الناشر مرونه اكبر في المغامرة مع الكتاب المغمورين فهي تدخل ضمن الفئة معدومة المخاطر .. لكن لايمكن ان يحدث هذا مع استمرار استحالة تحقيق الكتب الجيدة لمكسب مادي .. مهما رفعت قدرة الناشر على تحمل الخسارة فهي لن تصل الى ١٠٠٪ ابدا .. قواعد السوق واضحه وبسيطة ويستحيل اي ينجح اي شئ يتعارض معها.

ختاما الخص حديثي بأن السبيل الوحيد لحل المشكلة هو اعادة الناشر ليصبح مستثمرا وليس مقاولا .. واول خطوة لتحقيق ذلك هي ان نتخلى عن قرصنة الكتب .. في كل مرة تقرأ كتابا مقرصنا تذكر جيدا انك لم تسرق حق من استثمر جهده وماله لاخراج هذا العمل فقط .. بل حرمت كاتبا موهوبا من فرصة الظهور والنجاح وحرمت مجتمعك من انتاج ثقافي وفني راقي .. جميل .. ومفيد.

ودمتم،

احمد الحنطي
هيوستن .. تكساس
١٨ مارس ٢٠١٨