الرعاية الصحية في امريكا .. من يقدمها ومن يدفع كلفتها .. وكيف سنستلهمها

مع كثرة الحديث مؤخرا عن تخصيص قطاع الصحة الصحة السعودي وعن استلهام التجربة الامريكية خاض الكثير منا في الامر مناقشا ايجابيات وسلبيات التجربة الامريكية في الرعاية الصحية.

لكن بعض هذه الاطروحات مبنية على معلومات غير دقيقه .. ولان الحكم على الامر فرع عن تصوره احببت ان اعطي شرحا مبسطا قدر المستطاع عن نظام الرعاية الصحية الامريكية .. واقول مبسطا لان الامر معقد فعلا وتفاصيله لا نهائية وغالبية التعميمات التي نراها حوله غير صحيحه.

ليس صحيحا مثلا ان الكل لديه تأمين صحي وليس صحيحا ان من لايملك تأمين صحي لايقدم له علاج وليس صحيحا ان الخدمات الصحية يقدمها قطاع خاص ربحي بشكل حصري .. الحقيقه عبارة عن خليط من هذا كله ولفهمها يجب علينا تفكيك خيوطها المتشابكه .. واول مراحل هذا التفكيك هو الفصل بين امرين مهمين واساسيين .. الاول هو مقدمي الرعاية الصحية انفسهم .. اي العيادات والمستشفيات .. والثاني هو مقدمي خدمة التغطية الصحية .. بمعنى آخر التأمين الطبي.

مقدمي الرعاية الصحية يمكن تقسيمهم الى فئتين رئيسيتين .. الاولى عيادات او مستشفيات صغيره تتراوح بين طبيب واحد بتخصص محدد الى عدة اقسام بتخصصات وخدمات مختلفه .. الثانيه مستشفيات كبرى تحوي غالبية التخصصات وتقدم خدمات متقدمه وعلاج تخصصي وحتى مراكز ابحاث.

الفئة الاولى في اغلبها قطاع خاص ربحي بحت .. غالبا يملكها الاطباء المشغلون لها واحيانا تملكها شركات تدير عدة عيادات .. كما ان بعض هذه العيادات تعمل بالتنسيق مع المستشفيات الكبرى وتحت مظلتها رغم كونها مملوكة للمشغلين ورغم اختلاف الهدف بينهما.

هدف هذه العيادات ربحي بالدرجه الاولى وان كان بعض الاطباء يقدمون خدمات تطوعيه لمحدودي الدخل بتخصيص نسبة من خدماتهم لهذه الفئة بالمجان وبعضهم يقدمها مجانا ولكن على حساب جمعيات خيريه تنسق معهم (تجيه الجمعيه الخيرية تقول له نبي نتكفل بعلاج ٥ مرضى في الشهر مثلا .. رشح لنا كل شهر ٥ من اللي يجونك وماعندهم تأمين ولا فلوس وبنغطي مصاريفهم) .. لكن هذا كله لا يخرجها من القطاع الربحي الصرف.

بجانب هذه العيادات يوجد عيادات اخرى مجانية مخصصه لخدمة محدودي الدخل .. بعضها حكومي يتبع اما للمدينة او المقاطعه او حتى الولاية وبعضها يتبع لجمعيات خيريه او منظمات دينية .. الجمعية الاسلامية لهيوستن العظمى مثلا لديها عياداتها .. خدمات هذه العيادات وامكانياتها محدوده ولكن وجودها ضروري فهي الخيار الوحيد لبعض الفئات.

الفئة الثانية .. المستشفيات الكبرى .. الغالبية العظمى منها غير ربحية .. قليل منها مملوك للحكومة بشكل مباشر وبعضها مملوك للحكومة بشكل غير مباشر لتبعيته لاحد الجامعات الحكومية الكبرى والبقية اما مستقله او تتبع جامعات خاصه غير ربحيه او منظمات غير ربحية اخرى سواء كانت مدنية او دينية .. غالبية المستشفيات الكبرى المعروفه عالميا ومحليا في امريكا تدخل ضمن هذا التصنيف وهي المقدم الافضل للخدمة الصحية التخصصيه كما انها الرائد في تطوير العلوم الطبية واساليب العلاج في العالم.

لكن لايجب الخلط .. كونها غير ربحية لا يعني انها تقدم خدماتها بالمجان .. هي لا تحقق ارباحا ابدا لان مصاريفها اكبر من دخلها ويتم تغطية الفارق بخليط من الدعم الحكومي المباشر والغير مباشر والتبرعات من مختلف الجهات .. واذا وجد لديها فائض مالي يتم اعادة استثماره في توسيع نطاق الخدمه او حتى اعادة التبرع به لجهات غير ربحية اخرى اقل قدرة ماديا.

لكنها بالرغم من ذلك كله غالية جدا .. الخدمة الصحية في امريكا بشكل عام مكلفة جدا .. هي متقدمه ولكن تكلفتها اغلى من من الدول الاخرى بفارق ملموس .. والمستشفيات الكبرى هي الاغلى.

يوجد بجانب هذا كله نظام صحي خاص بالمحاربين القدماء او العسكريين السابقين حيث لهم مستشفياتهم المستقله التي تقدم خدماتها لهم بشكل حصري ومجاني تماما كما يوجد مستشفيات عسكرية تقدم خدماتها للعسكر الحاليين وتتعاون مع الخدمات الصحية الاخرى في بعض المجالات والحالات.

بعد ان القينا نظرة عامة على تركيبة قطاع تقديم الخدمة الصحية اصبح بامكاننا ان نرى بوضوح انه بالرغم من وجود من يقدم الخدمة مجانا سواء لقطاعات محدده او للجميع وبالرغم من كون نسبة كبيرة منه غير ربحية .. الا ان الخدمة الصحية في الغالب الاعم بمقابل مالي .. ومقابل عالي .. يندر ان يستطيع اي شخص تحمله في حالة تعرضه لامر طارئ او مرض عضال او مزمن.

فكيف يتم تغطية هذه التكلفه ؟؟ من يدفع مقابلها؟؟

الاجابة كما ذكرنا في البداية هم مقدمي خدمات التغطية التأمينية .. التأمين الطبي في امريكا ايضا معقد جدا ومتشابك ويدخل فيه جهات كثيره وسنحاول تفكيك خيوطها.

يمكن تقسيم الخدمات التأمينية حسب مقدمها هل هو الحكومة او القطاع الخاص كما يمكن تقسيم كل من هاتين الفئتين حسب طريقة الحصول على التغطية .. وسنمر على ذلك بالتفصيل.

التأمين الحكومي نوعين .. الاول محدود لانه يخص موظفي الدولة .. العاملين في الحكومة الفيدرالية (وعددهم يقارب ال ٣ ملايين) لديهم تأمين طبي تقدمه الحكومة لهم له نظام موحد بغض النظر عن مكان العمل او الاقامه كما ان العسكريين لهم تأمينهم الخاص ايضا .. العاملين في الكيانات الحكومية الاخرى سواء كانت ولايات او مقاطعات او مدن او خلافه لديهم في الغالب الاعم تأمين طبي وان كانت كل جهه تقدم برامجها الخاصه .. غالبا ما يكون التأمين الطبي الحكومي جيد من جهه التغطية ونسب التحمل كما ان الجهات الحكومية في الغالب تدفع قسط التأمين كاملا او نسبة جيدة منه على الاقل.

لكن هذا البرنامج محدود نتيجة لكون العاملين في القطاع الحكومي يمثلون نسبة صغيرة من الشعب.

تقدم الحكومة ايضا خدمات تأمينية للمواطنين .. لكنها ليست عامه للجميع .. هي تنحصر اجمالا تحت برنامجين .. الاول هو الميديكأيد والثاني هو الميديكير.

الاول مخصص للفقراء جدا .. نحن نتكلم هنا عن فئة من يقل دخلهم عن ١٥ الف دولار في السنه .. هذه الفئة ليسوا فقراء فقط .. بل مدقعي الفقر .. يعتبر البرنامج احد اجزاء شبكة الامان الاجتماعي .. خدمته معقولة لكن مشكلته ان التأهل للحصول عليه يستلزم ان يكون الشخص معدما بدرجة كبيرة جدا.

لكنه ايضا يغطي فئات اوسع في حالات معينه غالبا ماتكون طارئة .. على سبيل المثال ٥٠٪ من حالات الولادة في امريكا يتم تغطية تكلفتها عن طريقه .. كما انه يغطي بعض الحالات الاسعافية والطوارئ .. اي انه موجود للمصائب الكبرى فقط لاتشمل المواطن تغطيته الا فيها وبشروط متعدده .. لايوجد حسب علمي ضريبة خاصه لتمويلة لكنه يمول بالتشارك بين الحكومة الفيدرالية والولايات حيث تتحمل الحكومة الفيدرالية النسبه الاكبر من التمويل بينما تتحمل الولايات النسبه الاكبر من التشغيل.

البرنامج الثاني هو الميديكير .. تغطية الميديكير جيده الى حد ما .. كأي شئ آخر في امريكا له فئات وتفاصيل وتنظيمات معقده .. لكنه بشكل مبسط تغطيته جيده ويستحقه اي مواطن يبلغ عمره ٦٥ سنه .. يوجد ضريبة فيدرالية خاصة لتمويل هذا البرنامج يدفعها اي عامل في امريكا مهما كان سنه ومكان عمله تبلغ حاليا ٢.٩ ٪ تدفع مناصفه بين العامل وجهة عمله (اي ان كل من يعمل في امريكا صغير او كبير .. مواطن او وافد .. يدفع ١.٤٥٪ ضريبة ميديكير طوال حياته)

هذا البرنامج مماثل بشكل او آخر لبرنامج الرعاية الصحية الكندي والبريطاني مع الاختلاف بكونه يغطي فئة سنيه محدده .. يطلق على الفكرة single payer بمعنى ان مقدم التغطية التأمينية واحد وتشمل الجميع بلا استثناء ويمولها الجميع بلا استثناء .. الليبراليين يطالبون بتعميم البرنامج على جميع المواطنين بلا استثناء ويستخدمون مصطلح Medicare for everybody احيانا لوصف مطلبهم هذا .. لكن قطاعات كبيرة تعارض هذا الامر والنقاش الفكري بين المؤيدين والمعارضين طويل ولدى كل منهم قائمة طويلة بمبررات مواقفه.

القسم الثاني هو التأمين الطبي الذي يقدمه القطاع الخاص .. هذا ايضا ينقسم الى قسمين .. الاول هو التأمين الذي يتم الحصول عليه عن طريق جهة العمل .. والثاني هو الذي يشتريه المواطن من شركة التأمين مباشره .. ولكل منهما تنظيماته المعقده الخاصه.

التأمين الذي تقدمه جهات العمل هو المظلة التي تشمل النسبة الاكبر من المواطنين والمقيمين في امريكا لذا فتشريعاته هي الاهم والاكثر حساسية.

جهات العمل لم تكن مجبره على فعل اي شئ يخص التأمين الطبي للعاملين قبل اوباماكير .. ويبدو انها ستعود كذلك بعد انتهاء الكونقرس الحالي من عمله على هذا المشروع .. لكن اغلبها يحرص على فعل ذلك حتى قبل اوباماكير .. كما ان تقديم جهة العمل للتأمين الطبي للعامل لا يعني انه يحصل على بطاقة تأمين تقدم تغطيه شامله وخلاص كما يجري في السعودية لا قبل اوباماكير ولا بعده .. الامر اعقد واكثر تفصيلا وسلوك المنظمات فيه يختلف.

ما يحدث ان جهة العمل تقوم اولا بالتفاوض مع شركات التأمين المختلفه للحصول على عرض معين للتأمين على موظفيها واسرهم .. العروض التي تستطيع الشركات الحصول عليها تختلف .. قبل اوباما كير كان هذا الامر اختياري تماما مهما كان حجم الشركه .. بعد اوباماكير اصبحت اي جهه لديها اكثر من خمسين موظف مجبره على اتخاذ هذه الخطوه .. طبعا تفاصيل اوباماكير ومايفرضه او يتركه في هذا المجال معقده وليس هذا مجال نقاشها.

بعد ان تحصل الشركة على العرض التأميني امامها خيارين .. الاول ان تدفع التكلفه بالكامل وتمنح البطاقات للموظفين .. هذا مماثل لما يحدث في السعودية ولكنه نادر الحدوث ولا تمارسه عادة الا الشركات الكبيرة جدا ولفئات محدده من موظفيها فقط.

الخيار الثاني ان تقوم الشركه بعرض التأمين على الموظفين .. وتخيرهم في الحصول عليه من عدمه .. هنا بعض الشركات لاتدفع شيئا ابدا .. بمعنى ان الموظف يدفع كامل قيمة التأمين عن طريق الخصم من راتبه .. وبعضها تتحمل نسب معينه مثل ان تدفع نصف كلفة التأمين والنصف الآخر يخصم من راتب الموظف كما ان مساهمة الشركة تختلف احيانا لافراد الاسره .. مثلا تدفع الشركة ٧٠٪ لتأمين العامل و ٤٠٪ لافراد اسرته او حتى لا شئ لهم او اي تقسيمات ونسب اخرى تقررها الشركة .. مايخصم من راتب الموظف معفى من الضرائب كما ان الشركات تحصل على مميزات ضريبية معينه على مساهماتها.

الموظفين غالبا يسعون للحصول على التأمين عن طريق العمل حتى لو لم تتحمل جهة العمل اي نسبة لان القوانين المنظمة له افضل من مثيلتها الخاصه بالتأمين التجاري الذي يشتريه المواطن مباشره .. كما انه في الغالب الاعم يكون السعر ارخص لان الشركه تستطيع الحصول على عروض تأمينية افضل من التي يستطيع الحصول عليها الافراد.

لذا يعتبر العرض التأميني الذي تقدمه جهة العمل احد اهم فقرات العرض الوظيفي ويعتبر عامل مهم في تقييم المقبل على العمل للعروض الوظيفية المختلفه التي تقدم له .. لكن كلفة التأمين عالية فعلا .. الدراسات التي بني عليها اوباماكير وصلت الى ان الحد الادنى هو ٩ .. ٦٠ .. المقصود بذلك انك تدفع ٩٪ من دخلك مقابل تغطية ٦٠٪ من تكاليف علاجك .. طبعا هذا كلام عام جدا ويدخل تحته تفاصيل كثيرة جدا تجعله اختصارا مخلا .. لكنه يعطي فكرة عن مدى ارتفاع كلفة الرعاية الصحية في امريكا ولماذا يمثل الجدال حولها احد نقاط الصراع السياسي الرئيسية بين الاحزاب المختلفه ولماذا يهتم به جميع فئات المجتمع تقريبا.

اخيرا فيما يخص الحديث عن الحالة السعودية تحديدا .. لا استطيع ان ادعي علما فليس لدي معلومات خاصه .. لكن ما سأسرده هنا هو استنتاجي الخاص الذي بنيته على معرفتي بتركيبة الانظمة السعودية من جهه ومجموع ما اطلعت عليه من المعلن بواسطة المصادر الحكومية المختلفه طوال السنوات الماضيه من جهه اخرى.

اعتقد ان المقصود بتبني التجربة الامريكية يتلخص في امرين .. الاول تخلي الحكومة عن تقديم الخدمة الصحية بشكل مباشر .. اي ان تتوقف الدولة عن ادارة المستشفيات ككيانات حكومية لها ميزانيات وليس لها دخل .. وان تتحول هذه المستشفيات الى منظمات غير ربحيه مستقله ماليا تمول نفسها عن طريق تحصيل رسوم مقابل الخدمات وتكون في منافسه مع القطاع الخاص.

المنافسه هنا لن تكون مباشره لان المستشفيات الحكومية ستكون مماثلة للمستشفيات الكبرى الغير ربحية في امريكا بينما الخاصه ستكون مماثله للقطاع التجاري الربحي .. الحقيقه انه بالرغم من كون كلاهما مستشفيات الا ان الخدمة المقدمه منها تختلف وتحديد وجهتك لاي منها يعتمد بالدرجه الاولى على نوعية حاجتك الصحية في لحظه ما وليس لتفضيلك لخدمة المستشفيات الحكومية على الخاصه او العكس.

في المقابل .. وهذا هو الامر الثاني .. المواطن لن يدفع للمستشفيات مباشرة مقابل الخدمة الصحية .. بل سيكون ذلك عن طريق شركات التأمين .. موظفي القطاع الخاص يحصلون فعليا على تأمين طبي .. التغيير سيكون لموظفي الحكومة وللعاملين الحرين (تجار او متسببين او طلبه او عاطلين الخ).

هؤلاء سيقدم لهم برامج تأمينية حكومية خاصه اما عن طريق الدولة مباشرة او عن طريق تأسيس شركة تأمين طبي خاصه مملوكه بالكامل للدوله ومضمونة الارباح على غرار شركة الكهرباء مثلا (حتى لو لم تكن مساهمه).

بهذه الطريقه تستمر الدولة في تحمل كلفة الخدمة الصحية للمواطنين عن طريق تقديم تأمين طبي لهم مع ضمان كفاءة الانفاق والاداء للاجهزة الصحية الحكومية لانها ستتحمل مسؤولية تمويل انفسها عن طريق فوترة خدماتها فستضطر الى تقليص الهدر المالي وتحسين الخدمه للقدرة على الاستمرار وهذا نظريا سيخفض مصاريف الدولة على القطاع الصحي بدون تخفيض مستوى الاداء.

لكن هذا كله طرح نظري .. جميل نعم .. لكنه نظري .. الحكم الحقيقي يتم بعد التطبيق عندما تظهر التشريعات التفصيلية للعلن اولا ويتم تطبيقها والحكم على كفاءته ثانيا .. هذا التنظيم لو صيغ بطريقة جيده ونفذ بدقه وكفاءه مقبوله سيمثل نقلة كبيرة في مستوى وطريقة تقديم الخدمات الصحية في السعودية .. لكن الثغرات الممكن حدوثها في مثل هذا التنظيم كبيرة وكثيرة جدا ويمكن ان تحولة الى كابوس يجثم على كاهل المواطن .. ليس امامنا الا الانتظار والدعاء بالتوفيق للمخططين والمنفذين لهذا الانتقال الى مافيه خير البلاد والعباد.

ودمتم،

احمد الحنطي
هيوستن .. تكساس
٩ يوليو ٢٠١٧