في امريكا يوجد حزبين رئيسيين فقط .. كان هذا هو الوضع بشكل شبه دائم منذ الايام الاولى للجمهورية وحتى الآن .. الاحزاب التي نراها اليوم ليست بالضرورة هي نفسها التي كانت موجوده من البداية .. لكنها كانت في اغلب الفترات حزبين فقط.
الحزبين الموجودين اليوم .. الجمهوري والديموقراطي .. تبادلا عددا من المواقف والتوجهات في الماضي .. لكنهما ومنذ عدة عقود استقرا على توجهات معينه اصبحت صفة شاملة للحزب تصف الطيف الاكبر بين مريدي كل حزب .. الا وهي المحافظين conservatives للجمهوريين والليبراليين او التقدميين liberals or progressives للديموقراطيين .. يوجد توجهات اخرى تنطوي تحت كل من الحزبين لكن غالبا تمثل اقليات داخل الحزب لها تأثير اقل على سياساته.
فماهي الاختلافات الرئيسية بين هذين التوجهين وماهي دوافع كل تيار لتبني مواقفه وماهي مآخذه على توجهات التيار الآخر؟؟
قبل خوض هذا النقاش يجب توضيح نقطتين مهمتين .. الاولى تتعلق بمجالات هذه الاختلافات .. الاختلافات كلها تقريبا يمكن وضعها تحت تصنيفين رئيسيين .. التوجهات الاقتصادية والتوجهات الاجتماعية .. بالتالي سأطرح كل تصنيف في مقال على حده واحاول ان اشرح الفروقات بين التوجهين داخله.
الثانية .. والتي يجب الانتباه لها كثيرا .. ان الاختلافات بين الحزبين نسبية فقط .. بمعنى انه يوجد اجماع على عدد من المبادئ الامريكية .. لكن الاختلاف تفصيلي او نسبي فقط .. وسأحاول ان اوضح هذه النقطة اكثر اثناء الشرح.
المجال الاول للاختلاف هو الاقتصاد كما ذكرنا .. يركز المحافظين على مبدأ الحكومة الصغيرة .. بمعنى تقليص حجم اجهزة الدولة وخدماتها قدر المستطاع .. ولهم عدة دوافع لهذا التوجه .. فهم يرون ان القطاع الخاص افضل من الدولة كثيرا فيما يخص كفاءة الاداء والانفاق .. لذلك يرون نقل مسؤولية الخدمات والرعاية الحكومية الى القطاع الخاص باكبر قدر ممكن .. حتى الخدمات الاساسية كالصحة والتعليم مثلا .. مع وجود دافع تاريخي ضريبي لهذا التوجه لكننا لن نتعرض له.
قد تفكر بان هذا التوجه لايبدو منطقيا خصوصا عندما نتحدث عن الطبقات المتوسطه .. الخدمات الحكومية تقدم بالمجان بينما القطاع الخاص يقدم الخدمة بمقابل مادي .. لماذا يفضل مواطن ذو دخل محدود او متوسط ان يحصل على خدمة يدفع مقابلها بدل ان يحصل عليها مجانا؟
الحقيقه انه لاشئ يقدم مجانا .. الخدمات الحكومية تمول بواسطة الضرائب بالتالي هي ليست مجانية خصوصا لمن هو قادر على دفع ضرائب (ليس مدقع الفقر) .. بالتالي يفضل المحافظ ان يقدم القطاع الخاص الخدمه وهكذا يحقق المواطن هدفين .. الاول القطاع الخاص اكثر كفاءة في الصرف بالتالي سيحصل المواطن على خدمة افضل بتكلفة اقل حتى لو كانت خدمة القطاع الخاص ربحية بينما الخدمة الحكومية ليست كذلك .. الامر الآخر هو انه عند تقديم القطاع الخاص للخدمة فانه سيوفر درجات مختلفه من الخدمة بتكلفة مختلفه .. هذا يسمح للمواطن ان يدفع مقابل ما يريدة بالضبط .. لا اكثر ولا اقل .. بينما عندما تقدم الحكومة الخدمة فهي تقدم مستوى واحد بكلفة واحدة للجميع فهي هنا قد تفرض على المواطن دفع تكلفة عدد من الاضافات التي لا يريدها.
يمكن توضيح هذا الامر بعدة امثلة .. لنأخذ منها مثلا التأمين الطبي .. ماذا لو قدمت الحكومة خطة تأمين طبي موحدة لجميع المواطنين؟؟ ستقوم بتمويل هذه الخدمة عن طريق ضريبة تفرض على الجميع وفي المقابل ستقدم نفس درجة التغطية للجميع .. هذا شئ جميل .. اصبح كل مواطن لدية خدمة صحية جيدة تضمنها الحكومة .. سيرد عليك المحافظ .. انا لا اريد هذه التغطية .. هي اعلى مما اريد .. انا اريد تغطية اقل بسعر ارخص .. اترك لي المجال لاختار ذلك وادفع لمن يقدم لي الخدمة مباشرة وانت ادفع مبلغ اعلى مقابل الخدمات التي تريدها .. لماذا تفرض علي حد اعلى من التغطية وتفرض علي دفع مقابلة؟؟ كما ان المنافسة التي ستحدث عند وجود عدة شركات تأمين ستجعل كلفة التغطية التي ادفعها لهم اقل من التي تأخذها الحكومة بكل بيروقراطيتها وسوء اداءها.
طبعا موضوع التأمين الطبي اعقد من ذلك وفيه عوامل اخرى متعدده لكن هذا المثال المبسط صالح لشرح طريقة تفكير المحافظين وتوجههم.
فيما يخص الطبقات الفقيرة والتي تحتاج للدعم من اجل الحصول على الخدمات الاساسية يرى المحافظين ان هذه مسؤولية المجتمع وليس الدولة .. هم يرون ان انظمة الدولة البيروقراطية في رعاية المحتاجين ذات كفاءة متدنية وهذا نتج عنه انها اصبحت تشجع على الكسل .. بينما الجمعيات الخيرية الخاصة والمنظمات الغير ربحية اقدر على اداء هذه المهمه من الحكومة لذلك يجب تركها لهم .. وهم يجزمون بان المجتمع قادر وراغب بالعناية بالضعفاء وسيقوم بهذه المهمه بكل كفاءة ويستشهدون بحجم الاعمال الخيرية الضخم جدا في امريكا.
الجانب الآخر والذي يدفع المحافظين نحو تقليص خدمات ودعم الحكومة واجهزتها هو تقليص الضرائب .. المحافظ لايريد تخفيض الضرائب لكي لايدفع هو مبالغ اكبر فقط .. بل يريد ايضا ان لاتدفع الشركات والتجار بكل احجامهم ضرائب اكثر .. قد يبدو هذا غبيا للوهله الاولى .. لماذا يريد المواطن من الطبقة المتوسطة ان تدفع شركة البترول او الاتصالات الكبرى التي تحقق ارباحا بالملايين او حتى المليارات ضرائب اقل؟
السر في نظرية Trickle Down Economics .. افضل ترجمة استطيع تقديمها هنا هي الاقتصاد النزولي او النازل .. هذه النظرية قديمة وتم تطبيقها بدرجات نجاح متفاوته منذ عشرات السنين .. الفكرة تكمن بان الشركة التي تدفع عدة ملايين للضرائب تعيد استثمار جزء لا بأس به من ارباحها في التوسع .. فاذا قدمت لها الحكومة تخفيض ضريبي يوفر لها بضعة ملايين اضافية فانها ستستخدم هذه المبالغ في التوسع .. توسع اعمال الشركة يعني وظائف اكثر .. الشخص الذي حصل على وظيفة بسبب توسع هذه الشركة سيقوم بصرف جزء كبير من دخله في الحصول على خدمات ومنتجات من السوق .. هذا يعني ارباح اكثر .. توسعات اكبر .. وظائف اكثر .. وتستمر الحلقة بالدوران.
نفس الامر ينطبق على التخفيضات الضريبية التي تقدم للطبقة المتوسطة .. فنسبة كبيرة منها حسب هذه النظرية تتوجه اما نحو الاستثمار او نحو الانفاق .. كلا الامرين يساهمان بشكل مباشر في النمو الاقتصادي والذي بدوره لايحقق الرفاه للمجتمع فقط .. بل يحقق ضرائب اعلى للدولة ايضا.
بناء على هذه النظرية يرى المحافظين ان تخلي الحكومة عن جزء من الضرائب يحقق فائدة مباشرة للمواطن اكثر من تحصيل الحكومة لهذه الضرائب وصرفها على اعمال جهاز حكومي مترهل وسئ الاداء يقدم خدمات يمكن للقطاع الخاص تقديمها بكفاءة افضل وكلفة اقل.
الجزء الاخير من التوجهات الفكرية للمحافظين في المجال الاقتصادي يكمن في التنظيمات والقوانين التي تنظم عمل القطاع الخاص .. المحافظين يدعون لتدخل اقل وتنظيم اقل من قبل الحكومة .. يرون ان السوق الحر قادر على تنظيم نفسه بنفسه عن طريق المنافسة وان تدخل الحكومة يقوم باضاعة الفرص واقفال مجالات للعمل والاستثمار بدون داعي حقيقي لذلك.
ما المقصود بذلك ؟؟ لنضرب بعض الامثلة .. عندما تقوم الحكومة بتنظيم سوق التمويل فهي تضع مثلا (وهذا مجرد مثال القانون و الارقام المذكورة فيه ليست حقيقيه) قانون يقول انه لايحق لشركة التمويل العقاري ان تقدم قرض لشراء منزل بفائدة اكثر من ١٠٪ كما انه يجب ان لا تزيد نسبة الاستقطاع عن ٣٠٪ من الدخل المثبت للمواطن مع شروط تفصيلية على الوسائل المقبولة لاثبات الدخل.
يقول لك المحافظ يوجد شركات تمويل عقاري لديها قدرة اكبر على التحقق من دخل المواطن من الطرق المذكورة في القانون وعلى اجراء حسابات اكثر دقة عن نسبة الاستقطاع التي تضمن استمرار قدرة المواطن على السداد لانها تختلف من مكان لمكان في امريكا .. كما ان الشركات قادرة على تحمل الخسارة بسبب عجز بعض المقترضين ذوي الخطر العالي عن طريق اقراض ذوي الخطر العالي بنسب فائدة اعلى من الحد الموضوع في القانون .. لهذا الحكومة عندما تضع هذا التنظيم تضيع فرصة للاستثمار تحقق الربح لشركة التمويل القادرة على تحمل نسب خطر اعلى وعلى المواطن الذي كان يمكن ان يستطيع شراء منزل بالحصول على هذا التمويل وان هذا تعطيل للاقتصاد وحد من نموه ومن فرص الاستثمار والعمل بدون مبرر حقيقي لان قوانين العرض والطلب والرغبة في تحقيق الربح والخوف من الخسارة قادرة على ضمان تحقق ذلك بدون الحاجة لتدخل الحكومة في تحديد ماهي الخدمات التي يمكن والتي لايمكن تقديمها.
حتى بخصوص التنظيمات التي لاتمس المنع مباشرة ولكن تمس مستويات الخدمة .. يطالب مثلا البعض الحكومة بوضع تنظيم يضع حدا اقصى لاستهلاك الوقود للسيارات لايحق لاي شركة صناعة او استيراد سيارات تستهلك اكثر منه .. او لمدى حرية شركات تقديم خدمة الانترنت في استثمار بيانات مشتركيها ببيعها على المعلنين .. تبدو هذه التنظيمات جميلة فهي تحفظ مستوى جودة وخدمة عالي.
يرد المحافظ بان هذه مهمة السوق الحر .. دع الشركات تصنع ماتريد وتقدم خدماتها بالشكل الذي تريدة .. المستهلك سيتوجه لما يراه افضل .. عندما يتوجه المستهلك لشراء سيارات تستهلك وقود اقل ستتنافس الشركات نحو تصنيع سيارات توفر هذا المتطلب وعندما يترك المستخدم شركات تقديم الخدمة التي تبيع بياناته للشركات التي لا تفعل ذلك ستجبر الشركات السيئة على تغيير سلوكها .. واذا لم يفعل المستهلك ذلك فهذا دليل على ان هذا الامر ليس مهما ولايوجد حاجه لتنظيمة .. دع السوق ينظم نفسه عن طريق قوانين العرض والطلب والمنافسة بعيدا عن تدخل الحكومة وفرض انظمة تكون في كثير من الحالات اعتباطية ولاتهم المواطن في الحقيقة.
بعد ان استعرضنا اهم توجهات المحافظين فيما يخص تنظيم الاقتصاد .. ننتقل لاستعراض الموقف المعارض لليبراليين .. وسأستعرضها بنفس الترتيب بادئا بالحكومة الصغيرة.
الليبراليين ثقتهم بالعمل الحكومي اكبر من المحافظين .. ولديهم اثباتاتهم الخاصه لذلك .. هم يستشهدون بحالات نفذت فيها الحكومة اعمال بكلفة اقل من القطاع الخاص .. لكن هذه ليست نظرة شاملة لديهم .. بمعنى ان الامريكيين بكافة اطيافهم يؤمنون بكفاءة القطاع الخاص وباهمية الاعتماد عليه في كثير من الخدمات والاعمال .. لكن الليبراليين يرون ان هناك امورا اكثر اهمية وحساسية من تركها للقطاع الخاص ولهم عدة دوافع لهذا التوجه.
اهم هذه الدوافع انهم يرون انه لايمكن ترك الطمع والرغبة في تحقيق مكسب دافع وحيد لتحسين بعض الخدمات .. من الامثلة على ذلك التعليم .. يرى الليبراليين ان ترك التعليم للقطاع الخاص سيدفع للتوجه نحو تركيز الخدمة الجيدة في عدد محدود من المدارس التي تقدم خدمتها باسعار عالية يستطيع النخبة فقط تحملها والغالبية العظمى ستتحول الى خدمة تجارية تهدف لتحقيق ربح سريع بتجميل خارجي او حتى خداع بمنح الطلبة درجات عالية بدون تقديم تعليم جيد حقيقي يخدم الاغلبية وبهذا سينحدر مستوى التعليم خصوصا لاطفال الاسر الاقل اطلاعا او قدرة .. لذلك يجب على الحكومة التدخل وفرض تقديم تعليم عام مجاني يقدم مستوى تعليم حقيقي يضمن منح مستوى تعليم جيد للاطفال بغض النظر عن قدرة الاهل على الاختيار او الدفع.
التأمين الطبي مثال آخر .. يرى الليبراليين ان ترك سوق التأمين بدون تنظيم يعني تقديم عدد كبير من خطط التأمين الرخيصة التي لاتقدم خدمة تأمين حقيقيه يمكن الاعتماد عليها عند حدوث طارئ صحي مفاجئ وهذا يجعلها مجرد خدعة تبيع اطمئنان وهمي لمن يشتريها لكنها لن تحميه من الافلاس او حتى الوفاة بسبب عدم تلقي الرعاية الصحية عندما يتعرض لطارئ صحي عضال بشكل مفاجئ .. في النهاية لا احد يتوقع ان يصاب بمرض خطير او حادث مؤلم خلال العام القادم.
لذلك يرى الليبراليين انه يجب على الحكومة تنظيم بل وتقديم بعض الخدمات الاساسية بشكل مباشر يضمن حد ادنى من جودة الحياة للمواطنين بغض النظر عن قدرتهم المادية وانه هناك امور معينه لايجب تركها لحرية اختيار المواطن.
يجب الانتباه هنا للامر الذي ذكرته في البداية .. وهو ان الاختلاف نسبي .. بغض النظر عن كل التهم المتبادلة بين الطرفين وكيف ان المحافظين يقولون بان الليبراليين يريدون للحكومة ان تفعل كل شئ وان الليبراليين يقولون ان المحافظين لايريدون للحكومة ان تفعل اي شئ .. الحقيقه انهم مجمعون على ان القطاع الخاص هو الاساس في تنفيذ الاعمال وانه على الحكومة تولي مهام معينه لايجب تركها للقطاع الخاص .. الشيطان في التفاصيل كما يقول المثل الشهير .. فهم يختلفون فقط حول ماهي الجزئيات التي يجب عدم تركها للقطاع الخاص .. كل ما زاد ابتعاد توجهات الفرد يمينا او يسارا زادت الجزئيات التي يطالب الحكومة بتوليها او التخلي عنها .. وان كان الخلاف غالبا يدور حول ثلاث نقاط .. التعليم .. الصحة .. شبكة الامان الاجتماعي (مساعدات الفقراء).
فيما يخص ضعف اداء الجهاز الحكومي او عدم كفاءة الصرف لديه .. يرى الليبراليين ان هذا يمكن تحمله اولا لاهمية الخدمات التي يرون وجوب ان تقدمها الحكومة .. كما يرون ان الرقابة من قبل الشعب وممثلية في الاجهزة التشريعية قادرة على رفع مستوى الاداء وكفاءة الصرف لدى الاجهزة الحكومية .. ولديهم امثلة متعدده مثبته بالارقام تثبت صحة رأيهم هذا في مقابل امثلة اخرى لسوء اداء ومبالغة الصرف لدى القطاع الحكومي يستشهد بها المحافظين.
ايضا يصر الليبراليين على انه بالرغم من اهمية العمل الخيري والمؤسسات الغير ربحية .. الا ان جهودها وتمويلها غير كافي ابدا لتغطية الحاجة الفعلية لشبكة الامان الاجتماعي .. حججهم بذلك متعدده وارقامهم واحصائياتهم كثيرة .. منها ما يتعلق بنسب من يدخلون ضمن مستويات الحاجه لفترات معينه ويخرجون منها بعد فترة والتي تثبت نجاح هذه البرامج وانها ليست دافعا للكسل كما يدعي بعض عتاة اليمين كما يستشهدون بالفارق الكبير جدا بين الارقام الفعلية التي تصرفها الحكومة على رعاية المحتاجين وبين الارقام الاجمالية للتبرعات الخيرية والتي تثبت حسب ما يرون عدم كفاية العمل الخيري لتغطية الاحتياج الفعلي للمجتمع.
الجانب التالي للخلاف هو التخفيضات الضريبية .. يؤكد الليبراليين على ان ادعاءات المحافظين بتوجية التخفيضات الضريبية نحو مختلف قطاعات الدخل غير صحيح .. وبان المحافظين يقدمون تخفيضات ضريبية للفئة الاغنى بشكل اكبر بكثير من الطبقة المتوسطة .. بل هم كثيرا ما يدعون ان السياسات الضريبية للمحافظين تزيد من الضرائب على الطبقة المتوسطة في الحقيقه .. ويدعون بان هذا الميل في الميزان لصالح الطبقات الاغنى ناتج في الحقيقه عن كونها الممول الحقيقي للحزب الجمهوري لذلك هي تستطيع انتزاع تخفيضات ضريبية اكبر لصالحها مقابل الطبقات المتوسطة.
لكن الامر الاهم بخصوص التخفيضات الضريبية ان الليبراليين يؤكدون على فشل نظرية الاقتصاد النازل .. هم يقولون ان هذه النظرية كانت تنجح في الماضي لان الشركات كانت تستثمر ماتوفره من الضرائب في التوسع فعلا .. لكنهم يقولون بان هذا العصر انتهى كنتيجة لازدياد الترابط الاقتصادي العالمي .. يستدلون على ذلك بان مختلف حزم التخفيض الضريبي التي اقرها المحافظين في العقود الاخيرة لم تنجح في تحقيق اي نمو اقتصادي .. السبب يكمن في ان نسبة كبيرة من توسع الشركات الكبيرة كان يتم باتجاه الخارج .. بمعنى ان الشركات تحصل على تخفيض ضريبي من الحكومة فتستثمرة في الخارج بانشاء مصانع او مراكز خدمة عملاء او حتى فتح اسواق جديدة خارج امريكا .. بالتالي الفائدة تعود بشكل حصري على هذه الشركات ولا تنعكس على الدورة الاقتصادية الداخلية لامريكا (ملاحظة: هنا يمكننا ان نفهم سر الجاذبية لاطروحات ترمب حول الجمع بين التخفيضات الضريبية التي يحبها المحافظين مع التركيز على اجبار الشركات بشكل او آخر على التوسع في الداخل الامريكي بدل الخارج بعض النظر عن حقيقة وجود امكانية لتنفيذ ذلك فعليا).
لذلك هم يرون ان كبار التجار وشركاتهم يجب ان تدفع نصيبها العادل من الضرائب لتساهم بشكل افضل في تمويل الحكومة وتركيز التخفيضات الضريبية للطبقة المتوسطة التي تساهم التخفيضات المقدمه لها بالدورة الاقتصادية الداخلية بشكل اكبر وهي التي تحتاج لهذه التخفيضات فعلا.
حتى التخفيضات الضريبية التي تقدم للشركات عندما تحدث يجب ان تكون موجهه نحو برامج محدده ولا تترك للشركات تفعل بها ماتريد .. مثلا شركة تريد تطوير منتج معين سواء كان جديدا او يمثل اضافة على منتج موجود فعليا .. تقوم هذه الشركه (او حتى عدة شركات تتعاون معا) بانشاء مركز للابحاث يبحث في كيفية اختراع هذا التطوير بالتعاون مع جامعات محلية وتطوير برنامج تدريبي يؤهل موظفين جدد للعمل على تطوير/تصنيع/تسويق هذا المنتج بالتعاون مع مراكز تدريب او كليات مجتمع او حتى نفس الجامعات التي تقوم بالابحاث .. هذه الشركة او الشركات تقدم خدمة للدورة الاقتصادية وبالتالي تستحق تخفيض ضريبي موجه نحو تمويل هذا البرنامج جزئيا او حتى كليا.
او حتى تقديم تخفيضات ضريبية تدفع نحو توجهات معينه تسعى لتحقيق تقدم في مجالات محدده تريد امريكا تطويرها مثل الطاقة المتجدده والنظيفة على سبيل المثال .. وليس تقديم اقتطاعات ضريبية اعتباطية على جميع ارباح الشركة لاتعود بفائدة فعلية لا للاقتصاد ولا للمجتمع .. المحافظين يردون احيانا على هذا بان الاثرياء يدفعون نصيبهم العادل فعلا وان زيادته تعني الحد من النمو الاقتصادي وان اختيار اهداف محدده للتخفيضات الضريبية تدخل زائد عن الحد في الاقتصاد واختيار حكومي غير مبرر للرابحين والخاسرين (ادعم هذا ولا ادعم ذاك .. ليس لك الحق في الاختيار .. ادعم الجميع بنفس الدرجة واترك الافضل ينجح).
اخيرا فيما يخص التنظيمات او ال regulations .. على خلاف المحافظين .. يصر الليبراليين على ان هناك امورا يجي تنظيمها بشكل اكبر من قبل الحكومة ولايصح الاعتماد على قوانين السوق الحر تماما .. اطروحات الليبراليين هنا دائما تدور حول السلامة .. سواء كانت سلامة صحية او حقوقية او حتى اقتصادية.
مثلا هم يميلون اكثر نحو المزيد من القوانين والانظمة فيما يخص البيئة ومنع التلوث .. ايضا يرون انه من واجب الحكومة فرض قوانين اكثر تدقيقا وتشددا فيما يخص سلامة المنتجات .. منع دخول المواد القابلة للاحتراق في بعض الصناعات كقطع الاثاث مثلا او شروط اضافية تضمن سلامة وسائل النقل .. ويستشهدون على اهمية ذلك بحوادث متعدده عن منتجات تسببت في اضرار كبيرة بسبب عدم وجود تنظيمات حكومية صارمة وتساهل الشركات في عملها مما انتج هذه الاخطاء التي ادت لخسائر لايمكن تعويضها (كالوفاة والاعاقة).
حتى في مجالات مثل سلامة الاقتصاد .. اذا عدنا مثلا لمثال شركات التمويل العقاري الذي ذكرناه عند شرح توجه المحافظين في هذا المجال .. يرد الليبراليين ببساطة ان التساهل في القوانين جعل شركات التمويل تفرط في عملها بطريقة انتجت اكبر ازمة اقتصادية في تاريخ امريكا بعد الكساد الكبير .. وان هذه الازمة كان يمكن تلافيها لو كان هناك قوانين اكثر صرامة تنظم من يمكن لشركة التمويل ان تقدم قروضا له ومن تمنع من تقديم قروض له ورقابة اكبر على اداء هذه الشركات وان دعوات المحافظين لتقليص التنظيمات وتصغير الحكومة لاينتج عنها الا الفوضى وسوء الاداء والكوارث سواء في السلامة الشخصية او الاقتصادية وان التنظيم والاشراف يضمن تكبيل الطمع الذي ينتج اطلاقه على عنانه الكوارث الشخصية والاقتصادية .. خصوصا ان الشركات .. الكبرى تحديدا .. اقوى بكثير من ان تترك هي والمواطن في مواجهه مباشرة وانه يجب حماية المستهلك في اوجه متعدده.
مجددا اكرر انه حتى هنا تجمع اطياف المجتمع الامريكي على اهمية السوق الحر وقدرة ومرونة قوانين العرض والطلب والمنافسة على دفع الابداع لاعلى درجة وتحقيق اكبر قدر من الكفاءة الاقتصادية للمنتج والبائع والمشتري .. وتؤمن باهمية تنظيم الحكومة للعمل الاقتصادي واشرافها علية وضمان السلامة والامن والحقوق.
لكن الاختلاف يكمن في مقدار تدخل الحكومة .. اين ينتهي حد التدخل الذي يكفي لضمان هذه المتطلبات بدون التأثير على مرونة السوق وحريته وحركته المدفوعه بالعرض والطلب .. كل مازاد توجه الفرد نحو اليمين او اليسار كل مازاد طلبه لتدخل الحكومة او تقلص .. هم مجمعين على الثوابت لكن الخلاف في الطريقة الامثل لتحقيق هذه الثوابت وتجنب الاضرار فقط.
اختتم حديثي بالتأكيد على انه بالرغم من طول هذا المقال الا انه ليس بحثا شاملا لكل الجوانب المتعلقه بهذا الموضوع .. فقد حاولت في كتابتي له ان احقق التوازن بين طرح صورة شاملة تحقق فهما واضحا لاختلافات الطيف السياسي بين اليمين واليسار في التوجهات الاقتصادية .. وبين التعمق في التفاصيل اكثر من اللازم لتغطية كل الجزئيات المختلفه للامر .. فان كنت وفقت في تحقيق هذا التوازن فالحمد لله وان كنت اغفلت جانبا معينا قد يكون هاما او اغرقت في التفاصيل في جزئيات قد تكون غير ضرورية لتحقيق درجة الفهم الكافية فارجو تقديم العذر لي فالموضوع عميق وتفاصيلة كثيرة وقد يصعب فعلا الفصل بين ماهو لازم للفهم وبين ماهو مجرد تفصيل اضافي.
سأعود قريبا ان شاء الله في مقال آخر اغطي في الاختلاف بين التيارين من ناحية تنظيم الحياة الاجتماعية .. وبالرغم من اني لم اكتبه بعد الا انني اعتقد انه سيكون اقصر بكثير من هذا المقال لان المجال الاجتماعي اقل تعقيدا وربما اهمية من المجال الاقتصادي.
بعد الخاتمة .. أؤكد انه لايجب النظر للنص اعلاه كبحث اكاديمي موثق يمكن اعتماده كمصدر فكما تلحظ عزيزي القارئ انا لم اوثقه باي مصادر او ارقام او احصائيات .. هو مسح شامل يصلح لاعطاء فكرة للمهتم الذي يريد معرفة غير تخصصية كما يمكن ان يكون مدخلا يبدأ به من يريد البحث اكثر والحصول على معلومات تفصيلية موثقة من مصادر اكثر دقة.
احمد الحنطي
هيوستن .. تكساس
٢ ابريل ٢٠١٧